الأحد، 24 فبراير 2013

خطأ البديهيّات




لطالما اعتقدَ الإنسانُ الأولُ ، وخاصة إنسان ما قبل التاريخ وحتى إنسان ما قبل النهضة فى أُوربا، بأنّ الأرض ساكنة ومُسطّحة، وعدّ ذلك من البديهيّات التى لا تقبل النقاش وانّها واضحة بذاتها  لا يعوزُها الدليل أو البرهان؛ إذ انّ دليلها العقلُ الخالصُ. الأرض ساكنة لأنّها إذا كانت مُتحركة، هكذا كانوا يُجادلون، لزم ان يشعروا بحركتها. والارض غير دائريّة إذ كيف يكون الإنسان راسُه إلى أسفل وقدماه إلى أعلى، كيف يمشى الأنسان رأساً على عقب؟!!‍!....لقد اعتقد ارسطو أنّ الثُقل الأثقل يسقط إلى الأرض قبل الأخفّ وزناً وذلك لأنّ التجربة اليوميّة والخبرات الحسيّة التى شكلت عقولهم وعقله، اى ارسطو، كانت تؤكدّ لهم ذلك. وهُناك بديُهيّات لكل عصر وما هى، هكذا أعتقد، بالبديهيّات إذ أنّها نواتج الظروف البيّئيّة والتجارب الحسيّة التى صبغت وصاغت لهم عقولهم على نحوٍ من الأنحاء. من بديهيات الهندسة أنّ الخطين المُستقيمين المُتوازيين لا يلتقيان. تلك البديهيّة قد اُثبت عكسها وذلك لأنُ الفضاء مُنحنى كما أثبت اينشتاين. أعتقد أنّه سيكون فى المُستقبل إمكانيّة تواجد الشخص الواحد فى المكانين المُتباعدين فى ذات اللحظة وذلك على عكس البديهيّة المشهورة. وذلك يعنى أنّ العلم يُحرر عُقولنا من الصبغة الفكريّة التى صبغتها بها الظروف البيئة والتجارب اليوميّة الحسيّة ، ولذلك كُلما ارتقت العلوم قلّت البديهيّات.

ولأضرب مثلاً بسلطان البيئة والعادات الإجتماعيّة فى صياغة العقول، فأنّنى استشهد بارسطو وتصوره للإله فى عصره. فلقد خلع أرسطو مايعتقده هو صفات مُثلى على إلهه، ونظراً لتأثره بنظرة عصره وقومه للعمل  العلاجى الفعلى اليدوىّ وهى الإحتقار  والدناءة ، ونظرتهم إلى الإنعزال فى بُرجٍ عاجى  والتأمل الذّهنى المُجرد وعدم الإنشغال او حتى التفكير فى الآخرين نظرة الإجلال والقداسة والكمال، ذلك كلُه صبغ فكر ورؤية أرسطاطاليس للإله. فهو قد نسب إليه من صفاته هو نفسه مما يعتقده صفات كمال وسمو ورفعة ناسياً، وهوالفيلسوف الذى لا يُشقُ له غُبار، بأنّه أسير عادات إجتماعيّه قد طبعت عقله على هذا النحو من التفكير، وانّ هذه الصورة لا تليق بالإله. فإلهه لا يأبه ولا يُفكر فى البشر؛ لأنّ ذلك يُنقص من كمال و يحُطّ من قيمة فعله الذى هو التعقل المحض. فالله لا يُفكر فى العالم لأنّ العالم دنيئ وحقير بالقياس إليه وذلك لأنّ الله عندما يتعلق تعقله الخالص بالبشر فإنّ قيمة تعقله تنخفض وتنحط غلى مستوى ما يشغل تعقله، ولذلك فهم الله الأول والأخير هو تعقل ذاته لأنّها الوحيدة التى تستحق ان تشغل ذلك التعقل الخالص.يقول أيضاً الفيلسوف اليونانى القديم  إكسينفونXenophon  انّ البعوضة  لوكان لها ان تفكّر فى إلهٍ لها لتخيّلته على انّه بعوضه ذات حجمٍ كبيرٍ جداً  بحيث تكون قدراتها مُطلقة وصفاتها مُطلقة. كذلك الإنسان لا يُمكنه انّ يرتقى فوق نفسه فيعلم حقيقة وجود الله ، وإنّما هو لا بُدّ أن يخلع عليه من صفات الإنسان. لقد قال الفيلسوف الفرنسى سيمون أن الإنسان لا يُمكن أن يتفهم الإنسان وطبيعة ودوافع الإنسان إلّا إذا ارتقى فوق درجة الإنسان وأصبح إنسان فوق العادةMan cannot understand man except when man looks down on man from the standpoint of superman.  ولذلك فنحن نُجيب عن السؤال المشهور الذى يقول"أبالوحى عرفنا الله أم بالعقل؟ بأنّنا عرفنا ضرورة وجود الله بالعقل ، أىّ لزوم وجوده وانّه فوقنا من ناحية القوة والقدرة ، ولكنّنا تعرفنا على أوامره ونواهيه وعلى كيفيّة تصوره من الوحى والرسل الكرام. والوحى يقولُ لنا انّه ليس كمثله شيئ؛ فلذلك علينا أن نتوقف عن تصور كنهه لأنّ كل ما يجول بخواطرنا ليس هو. 


فلسفة توماس هوبزHobbes Philosophy


يُعدُ توماس هوبزThomas Hobbes من أبرز الفلاسفة الماديّين فى القرن السابع عشر ومن أبرز تلامذة فرانسيس بيكون الذين ذهبوا به أكثر مما أراد بيكون نفسه. فبيكون ، فى الواقع ، لم ينفى فائدة العقل الصرّف pure reason ولا الإستنباط العقلى Deduction  الذى ينطلق من بديهيات عقلية سابقة على الخبرة الحسيّة ،وإنّما دعا إلى المُزاوجة بين العقل وخبرة الحس أو المنهج الإستقرائى الذى ينطلق من الخبرة الحسيّة Empiricism ويُعوّل على المُلاحظة والتجربة الماديّة وفرض الفروض. قال بيكون:" أعتقد أنّنى  وحدتُّ بين المنهج العقلانى والمنهج الحسّى التجريبى الذى يؤدى الفصلُ بينهما إلى أضراراً بالغة بالبشريّة والعلم على السّواء I think I have united the  and the rational method, the divorce of which is fatal both to science and humanity .عاش هوبز  فى زمن حكم تشارل الأول ملك إنجلترا  الذى تمَّ إعدامه على يد أوليفر كرمويل  الذى ألغى بدوره الملكية  وأعلن الدولة the Republic  أو المحميّةthe Protectorate  لأنّه هو كان حاميها العسكرى من باقى الممالك المتربصة بها أو الملكيّة المشاع the Commonwealth  لأنّها انتقلت من كونها ملكية خيراتُها راجعة إلى الملك وحاشيته فقط إلى كونها برلمانية تمثّل عوام الناس يحكُمها مجلس عسكرى بقيادة كرومويل وهو من عوام الناس. لمّا رأى هوبز أنّ الدائرة تدور على ولىّ نعمته تشارل الأول ومن معه من المُناصرين من الطائفة الكاثوليكية الفُرسان the Cavaliers  وأنّ رحى الحرب تدور فى صالح  المتطهريين the Puritan Round Heads ومن معهم من العوام الساخطين على حل الملك المتواصل للبرلمانات التى تُحدّ من سُلطة الملك، آثر هوبز أنّ ينجوَ بنفسه، ففرَ إلى فرنسا  حيث عمل هُناك كمُعلّم ومُثقّف لتشا رل الثانى  بعدما تمَّ نفيه هو ووالدته إلى فرنسا بعدما أعدم كرمويل والده بتهمة الخيانة العُظمىthe Great Treason  للبلاد. دولة المُتطهرين تلك(1649-1660) كانت  صارمة فى تعاليمها الأخلاقية لدرجة أنّها أغلقت المسارح  وحرّمت أنواعاً من الرياضة المشهورة آنذاك مثل مُطاردة الدببةBull-baiting  ومُصارعة الديكةCockfighting  وسباق الخيل  horse-ridingوغيرها من أنواع التسالى التى كانت تُراق فيها دماء الحيوان بغير ذنب غير الترفيه على بنى الإنسان المُتبطلين. تلك الدولة قامت على أحكام التوراة الأخلاقية الصارمة، فالدولة نفسها هى التى  كانت ترعى الاخلاق وتطبيق الشريعة، وذلك على العكس من الحكم التيودرى Tudors الذى كانت فيه الكنيسة تقوم على رعاية الأخلاق والحس الدينى. الشعب الإنجليزى فى ظل حكم المُتطهريين كان يُنظر إليهم على أنّهم شعبُ الله the lord's people   الذين وهبوا أنفسهم ،بالدخول فى ميثاقٍ مع الله، لخدمة الله بحيث تكون غايتهم من الحياة هى الإمتثال لإرادته. الدولة، عند كرومويل والمُتطهرين، آداة لحراسة الدين. إبطال التماثيل وحرق الصور وتحريم الحلِف بالله وتحريم الخمور وأشكال الفسق المُتعددة كانت من مهام الدولة الأولى. التوراة كانت الدستور والقانون الذى كان يتم نشره فى مجلس العموم House of Commons  وتؤخذ منه المُعاملات. إنّ فحوى تلك التشريعات الصارمة التى حرّمت تفاهات الحياة وأخذت الشعب الإنجليزى بالجِدّ الصارم فى الأخلاق والأعمال هو فكرة أنّ الله  غيورٌ على عبده  a Jealous God من أنّ تصرفه عنه شواغل الحياة التافهة. من الخًرافة والتفاهة، طبقاً لدولة المُتطهريين، الإحتفال الصاخب بالكريسماس أو قرض الشعر وتأليف الموسيقى. تلك الدولة الدينية العسكريّة لم تبقى إلّا إحدى عشرة سنة حيث أنّها أصابها الضعف بعد موت كرومويل وتولّى إبنه ريتشارد الذى لم يكن فى كفائة والده، أضف إلى ذلك المكائد التى كانت تُحيكُها الأطراف الملكية المُناصرة للعائلة التيودوريّةTudor's family لإسترجاح حكمها مرة أُخرى ، إضافةً إلى تسخّط الطوائف المُتحررة من الشعب  من غير المُتطهرين على الحكم الصارم الذّى حرّم كل مُتعة وتسلية بما فى ذلك المسارح. سقطت الدولة وعاد تشارل الثانى ليحكُم وعاد معه مُعلمه هوبز الذى كان يتسلم منحة مالية معلومة كل شهر.

       يُعدُ هوبز من أكبر الفلاسفة الماديّين Materialists  فى عصر ما بعد النهضة  حيث يقول" كلً ما يُوجد فهو مادة، وكلُ تغيّر فهو حركةWhatever exists is matter, and  Whatever changes is motion " وأنّ الفلسفة، وهى كانت تمثل العلوم آنذاك، ما هى إلّا " معرفة المعلولات من عللها ومعرفة العلل من معلولاتها"، والمعرفة الأولى ، معرفة المعلولات من عللها، استنباطية عقلية بحتة حيث أنّها تنطلق من مُعرّفات بديهيةAxioms  وهذا النوع من المعارف تمثله المعارف الرياضيّة. أمّا المعرفة الأخرى، معرفة العلل من معلولاتها، فهى معرفة استقرائيّة inductive  حسيّة احتماليّة تعتمد على المحسوسات التى ليس من الضرورى أن نكون قد أحطنا بها ، ولأنّنا لا يُمكن لنا أنّ نتيقن ما إذا كانت  نتيجةماeffect  قد نتجت بالضرورة عن العلل التى اكتشفناها وليس عن عللٍ أُخرى. لنفرض أنّك ماشى فى الصحراء وأنّك لاحظت أثراً effect وهو واضح المعالم وأنّك تُريد أنّ تتعرف على العلةcause  ، فقمتَ بفحصها فوجدت أنّها أصابع قطة وليس ذئب آو أىٍ من فصيلة القطة. إلى هُنا أنت صحيح الإستقراء ، ولكن ليس من الضرورى أن تكون العلة التى اكتشفتها صحيحة ؛ لأنّ هُناك احتمالات ، فأنت لم تُحصِ كل الأقدام التى لها نفس الوضع والهيئة ، فقد يكون هُناك حيوان آخر له نفس آثار أقدام القطة  ولكن ليس هو بالقطة التى نعرفها.لذلك ، هذا النوع من المعارف ليس يقينى قطعى بل هو احتمالى ظنّى وليس يقينى كالمعارف الرياضيّة. ومن آثار هده المُعتقدات لدى هوبز نبذُه تماماً لفكرة"الله" بوصفه العلّة الأولىThe First Cause  ، فعلى الرغم من أنّه يرى أنّ كل معلول له علة وأنّ سلسلة العلل و المعلولات لابد أن تنتهى بنا حتماً إلى افتراض العلّة الأولى المُعلّلة للإشياء وهى الله  إلّا أنّه ينبذ فكرة الله لأنّ ، هكذا يزعم هوبز، الفلسفة- وهى تُمثل العلوم الحديثة فى حاضرنا- لا تُنبئ إلّا بالشيئ القليل عنها وأنّ فكرة الله تقع خارج نطاق الفلسفة ، بل هى من خصوص الدولة التى تُقرر أشكال  وكيفيّات الإعتقاد فيها. الفلسفة تقول بأنّ المادة وحركتهاMatter and Motion  هى علة كل الموجودات.إذن، هوبز أوكل فكرة الله والدين للحاكم يُقرر أشكال وجودها فالمحكومين عليهم أن يأخذوا و يقبلوا بفكرة وجود الله وكيفيات وجوده كما يقررها الحاكم ذاته. من هذه الآراء نرى أنّ هوبز هو مُشرّع الإستبداد لتشارل الأول وابنه تشارل الثانى فى تسلطهم الدينى على المحكومين كأ نّهم خُلفاء الله فى أرضه ، ونرى أيضاً إلحاد Atheism  هوبز حيث أنّه لا يُؤمن بوجود الله عقلاً بكونه العلة الأولى للأشياء أو كما قال أرسطو المُحرك الأول The Prime Mover  ، وإنّما يعتقد فى المادة وحركتها بكونها العلة الأولى التى نتج عنها باقى العلل.حتى الذكاء الإنسانى  Human Intelligence ما هو إلّا حركات للمادة فى أدمغتنا وفى قلوبنا. كلُ حَدَثٍ فى الكون، طبقاً لهوبز، لو أمكن فهمه، يُمكن اختزاله إلى حركاتMotions.
سيكولوجية المعرفة والإرادة عند هوبزHobbes' psychology f Cognition and Volition
طبقاً لهوبز، الإحساساتSensations   المُتولدة عن حواسنا الخمس هى مصدركل المعرفة البشرية؛ فليس هُناك تصوّر ينشأ فى عقل إنسان إلّا ويستمدّ أصله ،سواء بشكل جزئى أو كلى،من أعضاء الحس لديه. إذن، فكل ما نُسميه معارف عقلية بحتة Rational كالرياضيات والمنطق البديّهى هى مُستمدة من الخبرة الحسيّةEmpirical Experience ، وعلى هذا فليس هُناك معارف أوليّةInnate Ideas  سابقة على مُدركات الحِسّ كما يقول أفلاطون وكما يقول جون لوك وكما يقول ليبينز وكما يقول رجال الدين المسيحى وكما يقول المثاليّون  الذين يؤمنون بأسبقيّة الفكر على المادّة . فمثلاّ، البديهيّة الهندسيّة التى تقول بأنّ الخطين المّستقيمين المُتوازيين لا يتقابلان هى عند المثالين مثل ديكارت والفلاسفة الذين سبق ذكرُهم حقيقة سابقة على الخبرة الحسيّة  a prioriبمعنى أنّها دليلُها المنطق السليم فقط وأنّها من ثوابت الوجود فلا يُمكن تغييرها وهذا هو المقصود حينما قال ليبينز الفيلسوف المثالى الألمانى أنّها طريقة تعقل الإله للأشياء وهو يقصد طريقة التفكير الرياضى الثابت الذى لا يتغير بتغير الحواس أو تعطلها. يقول هوبز أنّ المعرفة تنشأ على النحو التالى: أشياء العالم الخارجى ، موضوع المعرفة، تؤثّر على حواسنا إمّا مُباشرة Immediately كما يحدُث مع حاستى التذوق واللمس أو غير مباشرة Mediately  كما هو الحال مع حواس االإبصار والشم والسمع. مثلاً، موضوع الإدراك فى الحالة الأولى ، فى حالة المس هنا، لابُدّ أنّ يصطدم مُباشرة مع حاسّة اللمس فتحدث خبرة الملمس وخبرة الإمتداد Extension ؛ ذلك لأنّ موضوع الخبرة وهى الأجسام الخارجيّة تُمثل علة المُقاومةResisting Cause  والمُدافعة للحس التى تُنتج أثراً وهو إدراك معنى الإمتداد فى الفراغSpace  ، أىّ إدراك الصفة الجسميّة لللأشياء. ذلك التأثير على أعضاء الحِس الذى تُمارسه موضوع الإدراكات  تُنشئ حركة فى المُخ أو فى القلب – موضوع العاطفة – الذى يستجيب بتوليد الإحساس باللون أو الصوت أو الرائحة أو البرودة أو السخونة أو ما شابه. ولنا انّ نسأل هُنا ونقول،" هل من مبرر منطقى لنفترض أنّ المحسوسات التى تأتينا عن طريق أعضاء الحِس  هى نفسها موضوعات الحس كما هى فى ذواتها أمّ أنّها من الممكن أّن تكون مُغايرة لما هى عليه فى الواقع In Reality  ؟....يقول هوبز أنّه طالما كلُ ما يُوجد فى الواقع الخارجى ، اى خارج عن ذواتنا، هو مادةMatter   وأنّ كل التغيّرات التى تطرأ عليها هى حركةMotion  ، فإنّ المادة ليس لها ، على التحقيق، سِوى الخاصيّة الفيزيقيّة وهى الإمتدادExtension  ، امّا باقى المُدركات كاللون والرائحة والصلابة والليونة وغيرها فهى تُعزى إلى ذواتنا نحن وليس إلى موضوع الإدراك. يضرب هوبز مثالاً " بحُمرة الوردة"  ويقول لو أنّها كانت خاصيّة Attribute    فى ذات  الوردة ، ما كان من الممكن أنّ تنفصل وتزول عنها  تماماً كما يحدث مع المرآة والأشياء التى تعكسها. لوكان الصوّت صفة واقعيّة فى الأشياء المُحدثة للصوت ، ما كان من الممكن أنّ تسمع الصوت فى مكان آخر كما يحدث مع الصدى . إنّ كل ما يتولد عن حواس السمع والبصر والتذوق والشمّ ليس إلّا إحساسات ذاتيّة تتولد فى أدمغتنا إستجابةً لتأثير موضوع الحواسmaterial objects .هذه الإحساسات يُسميها هوبز توهمات Fancies أو ظواهر تبدو للحس وليس لها وجود على الهيئة التى تبدو بها لنا Seemings ، وهى تبدو لنا على تلك الهيئة  نظراً لأنّ أدمغتنا مُركبة بحيث تُدركها على تلك الهيئة. هذه الإحساسات التى يُسميها هوبز بالتوهمات Fancies هى نفسها التى سيأتى لوك ومن بعده ويسميها الصفات الثانويةSecondary Qualities تمييزاً لها عن الصفات الأوليّة  التى هى موجودة فى ذوات الأشياء بمعزلٍ عنا نحن المُدركون لها. هذه الفكرة، وهى عدم واقعية الصفات الثانوية، قال بها ديكارت وضرب لنا مثالاً بقطعة الشمعa piece of wax  فى أنّ  صفاتها الثانوية وهى رائحتها وملمسها ودرجة حرارتها وصلابتها تختلف من إنسانٍ لآخر، أىّ أنّها صفات ليست ذاتية فى ذوات الأشياء، وإنّما نحن الذين نخلعها على الموجودات.أمّا الصفة الجوهرية للأشياء فهى الإمتداد Extension وهى عند ديكارت خاصة  جوهريّة Attribute  لجوهر المادة الذى لا يتمكن من  إفنائه إلّا الله الجوهر الأبدى. والفارق بين ديكارت  و هوبز هو أنّ الأول يعتقد فى وجود جوهر قديم مًستقل عن جوهر المادة  وهو الروح أو الفكرConsciousness  ، ويؤمن فوق ذلك بوجود الله الذى يتمكن من إفناء جوهرىّ المادة والوعى ، أمّا هوبز فهو لا يؤمن  إلّا بالمادة وحركة المادة التى تؤدى إلى التغيُّر ولذلك فهو مادىّ قُحّ. ديكارت، أيضاً، مثالى ؛ لأنّه يُؤمن بأفكار فطريّةInnate Ideas  سابقة على الخبرة الحسيّة A Priori Knowledge  كالبديهيّات الرياضيّة Mathematical Axioms  مثل قضيّة " الخطان المستقيمان المتوازيان لا يلتقيان ، ومجموع زوايا المُثلث يساوى مائة وثمانين درجة" وغيرها من المّسلمات. أمّا هوبز فهو يرفض تلك المعرفة البديهيّة ويقول بأنّ كل المعارف البشريّة هى نتاج خبرة الحِسّ a posteriori . ولكن لنا أنّ نسأل أيضاً:" إذا كانت الصفات الثانويّة ليست موجودة فى ذات المادة المُدركَة ولكنّها ذاتيّة فينا نحن المُدركين، فما منشأ أو علة وجود هذه الصفات أو التوهمات Fancies  كما يُسميّها هوبز؟... هوبز غامض فى الردّ على هذا السؤال، وهو كمادىّ صِرف يعتقد فى وجود حركات ماديّة Physical Motions  فى أدمغتنا هى علة الصفات الثانويّة التى نخبُرُها، ثمّ إنّه عندما يُسميّها توهماتFancies  فهو يميل إلى الرأى الذى قال به توماس هكسلىThomas Huxley  فى القرن التاسع عشر وهو أنّه لا يتأتى عقلاً تعريف الوعى بالمادة  وأنّ الوعى علتهُ شيئٌ ما غير حركة المادة فى أدمغتنا  وهو ما سمّاه هكسلى ب Epiphenomenon. يعلل هوبز أيضاً باقى العمليات الأُخرى كالذاكرةMemory  والخيال  Imagination على أساس مادىّ. فالخيال بالنسبة له ما هو إلّا "حاسة آخذة فى الإنحلال Decaying Sense " فكما أنّ الأمواج التى هيجتها الرياح تستمر ، بعد سكون تلك الرياح، فى وجودها ولكن بشكل أخفّ ، كذلك حركة المادة فى الدماغ البشرى تظل ولكن بحدّة أقل. فبعدما ينقضى الحافز المادى الذى يترك أثره على الحواس ، فإنّ الإحساسات التى وُلدت من حركة المادة فى المُخ أثناء وجود الحافز تولّد صوراًImages  ذهنية. هذه الصور الذهنيّة مُتمايزة عن المُدركات المُحسّة  Sense Perception نظراً لأنّ حدتها تضعُف فى الذهن مؤلفةً ما نسميّه بالذاكرةMemory . وعندما تجتمع أشياء من هُنا ومن هُناك من تلك الذكريات Memories، سواء عمدَ صاحبُها ذلك الجمع أو أنّه أخطأَ التذكر الصحيح لضعف الذاكرةFaintness  لبعدها عن مصدر الإحساسات ، فإنّها تكون ما يُعرف بالخيالImagination   مثل الحيوان الذى نصفه رجل ونصفه حصانCentaur  والرجل العملاق ذو العين الواحدة فى منتصف جبهته Cyclopes . على هذا الأساس يقرر هوبز وجود الأحلام والرؤى والأشباح وعوالم الغيب ، فهو ، طبقاً له، نتائج إضطرابات عضويّة وخلط بين الخيال و الإحساسات.  
       تداعى الأفكار عند هوبزHobbes' Association of Ideas
يُعلل هوبز ظاهرة تداعى الأفكار، وإن كانت غير شعوريّة Unconscious  ، بحركة المادةMatter Motion  فى الدماغ الشرى. هذه الظاهرة ،وإن كانت عشوائيّةUnguided  أو بدون إعداد مُسبق من جانبنا، فإنّ علاقة ما عليّة يُمكن تتبُعها. ويضرب هوبز مثالاً لظاهرة تداعى الأفكار بالحوار الذى أدّى فى نهايته بالرجل الذى كان من مُناصرى الملك تشارل الأول فى حربه ضد مُناصرى مجلس العموم إلى قول " وما قيمة بنساً رومانياًWhat was the value of a Roman penny?". يقول هوبز مُعللاً نشوء هذه الفكرة فى عقل الرجل أنّ الحرب الأهلية التى كانت قائمة بين مُناصرى الملك وبين المُتطهرين وأصحاب مجلس العموم جلبت إلى ذهنه على الفور تصور تسليم الملك لأعدائه ، وذلك التصور  استدعى إلى ذهنه على الفور فكرة تسليم وخيانة المسيح ، وتلك بدورها استدعت إلى ذهنه فكرة الثلاثين بنساً Thirty Pence  الذى أخذها يهوذا الأسخريوطىJudas Iscariot  ثمناً لخيانة المسيح، وتلك بدورها أوجدت ذلك السؤال البلاغى ، وليس الحقيقى، ذى المعنى. كلُ ذلك كان فى لا وقت لأنّ الفكر سريع  كما يقول هوبز.

حتّى الأرادة والشعورFeelings and Volitions  يُعللهما هوبز على أساس حركات المادة فى الجسم البشرى ، فهناك، طبقاً له، نوعين من الحركة الذى يتصف ويختص بهما كلٌ من الأنسان والحيوان: أولهما الحركة الحيويّةVital Motion  ومثالُها دورة الدم والتنفس والغذاء والإخراج وغيرها من الحركة التى تحفظ الحياة، وثانيهما الحركة الإراديّة Voluntary Volition وهى التى تنشأ عن الإرادة الحُرة ، ومثالُها إرادة التكلم ، النهوض، الحركة  وهى التى تُحرّك بدورها الأطراف والأعضاء  لتقوم بالفعل كما خطر فى الذهن. يقول هوبز أنّ الخيال Imagination  يُمثل بداية الحركة الإراديّة والمقصود بالخيال هنا استحضار صورة  وانفعال النهوض فى الذهن كما استحضرتها اول مرة تنهض فيها وهو خيال لأنّ فى ذهنك صورة لرجل مثلاً اراد ان يتناول ، مثلاّ ، كتاب ، فما كان منه سوى ان مدَّ يده وتناوله؛ إذن، ففى ذهنك صورة مُسبقة لكيقيّة إرادة الإرادة ، وهذه الصورة عند هوبز هى خيال.هذا الخيال يُحفز بدوره حركة المادة (وهى التى نُسميها حديثاً الإشارات العصبيّة  neurological  Signals  وذلك يدلنا على سبق هوبز فى إثارة تلك القضيّة) داخل الأطراف الخاصة بالنهوض . هذا الجهدConatus or Endeavour   لتنفيذ الإرادة  عندما يتجه ويُقبل نحو موضوع الحركة ، وهو الدافع الأول الذى علّلَ الحركة وجعل الخيال مُتاحاً، فإنّه يُسمى رغبة أو شهوةDesire  كما يحدث عند الجوع والعطش. وعندما يُدبر هذا الجَهد ويصُدّ عن موضوع الحركة ، فإنّه يُسمى نفوراًAversion . إنّنا دائماً ما نقول بأنّ الإنسان يُحبُ Love  ما يرغبه Desire  وانّه يكره Hate  ما ينفر منه Aversions  ، غير أنّ الفارق الوحيد بين ما يُعرف بالرغبة Desire  والنفورAversion  وبين الحُب Love  والكراهية Hate  هو أنّ الشعورين الأولين  موضوعُهما  الشيئ الغائب عنّا ، فأنت ترغب فى كل شيئٍ ليس تمتلكه، وانت ترغب في أنّ تتملكه، وانت تنفر من فكرة القتل ،مثلاً، ولو لم يكن هُناك قاتل لتكرهه. أمّا الشعوران الآخران فإنّهما موجهان إلى الأشياء التى نخبُرها صراحة، فأنت تُحبُ حبيبتك لأنّها تعدّت مرحلة الرغبة فى وجودها بهذه الصفة وهى كونُها  حبيبتك، وأنت تكره  القاتل لأنّه تخطى فكرة القتل ذاتها وأصبحَ بالفعل  ضالعاً فى القتل. ينتقل هوبز إلى تنظيرة أُخرى تدلُنا على مدى ماديّته وهى وصفه لكل ما يُرضى رغبة Desire  الإنسان بالخيّرGood  وكل ما ينفر منه Aversion  بالشريّرEvil . فعندما تُدرك حواس الإنسان  موضوعاً للإدراك، فإنّ حركة المادة تصعد من أعضاء الحِسِ إلى القلب ( وهو ما يُعرف حديثاً بالجهاز السيمبثاوىSympathetic System المُختصّ بالشعورFeelings)  أو إلى المُخ ، ثم يستجيب احدُهما إمّا برغبةDesire تولّد جهداً Endeavour  مُقبلاً على موضوع الإدراك أو بنفورٍ Aversion  يولّد جهداً مُدبراً  عن موضوع الإدراك. ثمّ ، عندما تخبُر موضوع الرغبة أو تبعُد عن موضوع النفور فإنّك تشعر بالمُتعة الحسيّة Pleasure  ، وعلى النقيض ، فعندما نفشل  فى أن نخبر موضوع الرغبة أو نفشل فى أن نبتعد عن موضوع النفور ،فإنّنا نشعر بلإلم الحسّى Displeasure . إنّ هوبز، فى هذه الجُزئيّة، مثل أبيقورEpicurus  الذّى يُعرّف المُتعة الحسية بالخير الأعظمSupreme Good والفضيلة الكُبرى. فأنت قد تموت و تتعذب من أجل قضيّة ما تعتقد انّها الحقُ وانّها هى الفضيلة  وتحسُ بالرضاء النفسى والسعادة على كل العذابات التى تُصبُ عليك. هذه القضيّة عند ابيقور وهوبز ليست فضيلة أو خير بل هى شرٌ محض ما دامت تجلب لك الأذى الجسدى. ذلك المذهب عند أبيقور واتباعه يُعرف باللذّة الحسيّة Hedonism. ولكن قد يؤمن الفردُ منا بذلك ويعمل بتلك الفضيلة الحسيّة ويكون إيثارياًAltruistic  فيتجنب إيلام غيره  ويتجنب إرضاء لذاذاته الحسيّة على حساب المجموع الذى يعيش معه، غير أنّ هوبز لا يدعو إلى ذلك ، بل يدعو إلى النفعيّة الذاتيّة الأنانيّةEgoistic hedonism   بمعنى أنّ الخير والفضيلة تختلف باختلاف دوافع اللذة عند الأفراد ؛ فالفضيلة والخير ليس مُطلقين يعُمان الجميع بل نسبيان.  هذه التنظيرة ستعلل لنا نظريّة هوبز فى الحكم. إذن، هوبز يعتقد أنّ عمليات الشعور والتفكير عند الإنسان نانجة عن حركة المادة فى الجسد ، وهو لم يقل بحركة الذرات والجّزيئاتMolecules  نظراً لأنّ العلم لم يكن قد ارتقى فى عصره إلى مستوى الجُزيئات ، وحتى فى عصرنا الحديث لم يتمكن أحدٌ من تفسير الظواهر العقلية عند الإنسان على أساس حركة الجُزيئات الميكانيكيّة.  يعتقد هوبز أنّ الإنسان ما هو إلّا حيوان Animal ذو بنية جسدية تتآلف من مادة فى حركة Matter in Motion  ، ولكن ، فى الواقع، يعجز هوبز عن رؤية أنّ موضوع الرغبة والنفور  عند الإنسان وهذا الصراع فى تحقيق أحدهما و تجنب الآخر  يرتقى بالإنسان فوق رُتبة الحيوان. ديكارت يختلف مع هوبز فى أنّ الأول يرى أنّ حركة الحيوان حركة ميكانيكيّة كحركة الكواكب والأفلاك ، ولكنّه ينسب الحركة فى الإنسان إلى عُنصرٍ  آخر وهو ما يُسميّه الروحSpirit  ، ويعجز ديكارت، ويعترف بعجزه، عن التوفيق بين المادى ، الجسد، واللامادى ، الروح، كيف لهما أنّ يتصلا وأنّ يُحرّك أحدُهما، الروح ، الآخر، الجسد.

       فلسفة هوبز الأخلاقيّة والسياسيّةHobbes' Ethical and Political Philosophy
اشتهر هوبز خلال فتتى حُكم تشارل الأول الإنجليزى وابنه تشارل الثانى بأنّه عَلمٌ على الخلاعة واللادين؛ ذلك لأنّه كان يدعو إلى التحلُل من كل خُلقٍ أو وازعٍ دينىّ مُدعيّاً أنّ الإنسان عليه أن ينشُد أقصى لذّة حسيّة مُتاحة له وان هذا هو الخير الأسمىThe Highest Good . تلك التعاليم قد عمِلَ بها تشارل الثانى  بعد عودته إلى إنجلترا واسترجاع الملكيّة Restoration  مرة أُخرى من أيدى المُتطهريين بقيادة ابن كرومويل ريتشارد الأول. إذا أراد القارئ أن يرى تعاليم هوبز الأخلاقية مُجسدة ، فليقرأ تاريخ فترة حُكم تشارل الثانى و كيف أنّ حياته كانت تهتُك أخلاقى ومُتاجرة خبيثة خفيّة بمصالح إنجلترا لصالحه الشخصى  وغير ذلك من تهكمه بالدين والمُتدينيّن. اشتهر هوبز أيضاً بأنّه مُشرّع ومُنظّر للإستبداد فى الحكم وذلك معروف من خلال تدعيمه موقف تشارل الأول فى حلّه للبرلمان واستبداده فى فرض الضرائب المُتصاعدة  وتدعيمه أيضاً حُكم تشارل الثانى بعد عودتهما هما الإثنين من فرنسا بعد ان كانا قد نُفيا إليها بعد إعدام تشارل الأول وإخضاع البلاد لحكم المُتطهرين Puritans بقيادة أُليفر كرمويلOliver Cromwell. وللإنصاف نقول بأنّ بعض المؤرخين يرون أنّ هوبز قال رأيهُ الحُرَ  فى نظريّته للحكم ولم يكن يُمليه عليه خوفه من أو ولائه لتشارل الأول او الثانى ، والبعضُ الآخر يرى أنّه مُشرّع الإستبداد والملكيّة المُطلقة Absolute Monarchism  وأنا أميلُ إلى هذا الرأى.
يُفرّق هوبز، فى نظريّته لكيفيّة نشوء الحكومات، بين حالتين : حالة الطبيعةState of Nature ، وحالة الدولة Condition of State . ففى الحالة الأولى ، وهى حالة البداوة الطبيعيّة وهى سابقة على تشكيل الحكومة أو الدولة كسلطة، كان كلُ فردٍ فى المُجتمع البشرى يبغى حماية نفسه فقط وإرضاء كل رغباته الففرديّة الأنانيّة دون النظر إلى مصالح المجموع من المثجتمعين معه، وفى هذه الحالة لم يكن يُعرف أىٍّ من الأخلاق اوالقوانين. كلُ فردٍ ، بموجب حالة البداوة الأولى، كان له الحق، كامل الحق، فى أنّ يتملك ما يشاء مادام قادراً على التملّك. لم يكن ما يُعرف الآن بالقانون او حتّى فكرة الظلم،؛ فالقانون كان هو اللّا قانون. هكذا كانت حياة الأفراد قبل نشوء الحكومات. النتيجة الحتميّة، كما يتصورها هوبز، لهذه الحالة هى نشوُء حرب من الكل ضد الكل A War of All against All  . وتلك الحرب لم تكن فقط حرباً فعليّة من اجل المصالح ، بل حرباً نفسيّة مصدرُها انّ الأفراد كانوا دائماً ابداً مُتحفزين وقلقين خوفَ نشوب حرب او هجوم فعلى. تلك الحالة كان يسودُها إنعدام الأمن والطمأنينة Insecurity  ولذلك لم يكن هناك قُدرة او دافع للعمل أو الإنتاج وبالتالى تدهور أحوال الأفراد وانتشار الفقر والمرض وغيرها من أسباب  انقضاء الحياة. على أنّ هوبز لا يعتقد فى شيوع تلك الأحوال التى تقضى على الحياة بطول التاريخ البشرى، وإنّما هو يؤمن فى وجود أمثلة تصدق على تلك الأحوال منها حياة الهمج   Savages الذى شاهدها هوبز. يضرب هوبز مثلاً لهذه الحالة من الترقب والحذر من جانب الأفراد والسعى وراء المصلحة الذاتيّة وحب الإمتلاك بالعلاقات بين الأُمم والممالك التى كانت قائمة فى عصره حيثُ أن الملوك أو ذوى السلطة المُطلقة دائماً  كانوا يعيشون فى حالة غيرة وحِقد وعداوة  ويقفون من بعضهم البعض وقفة المُصارع Gladiator   المُتحفز إلى غفلة خَصمهُ  مُمتشقاً سيفه مُنتظراً لحظة الإنقضاض والسيطرة. كذلك الملوك كانوا يعيشون فى حالة من الحذر والترقب والعداوة  والنظر الشديد إلى مدى قوة قلاعهم وحصونهم  مُرسلين الجواسيس التى تترصد أعدائهم. وطبقاً لهوبز  فى مذهبه الأخلاقى النفعى، فإنّ صفتىّ الخديعة والقوةFraud and Force  كانتا الفضيلتين الرئيسيتيّن فى العلاقات القائمة بين الممالك فى حالة الحرب إن لم تكن فى كل الحالات. الناس، لفقدهم الأمن ولكونهم مُتأهبين دائماً لحالة الهجوم أو الحرب، كانت تنزع شيئاً فشيئاً إلى السلام والأمن  هروباً من حالة الرُعب والتوجس النفسى الذى لا يتفق واستمرار الحياة البشريّة. لذلك اتفق الناس فيما بينهم على إنشاء ما يُعرف بالملكيّة العامةCommonwealth  وقاموا من خلال عقد اجتماعىّ Social Contract  بتنصيب رجُلاً قوياً مرهوباُ من بينهم كحاكمٍ لهم ليُطيعوا اوامره ونواهيه. ولكىّ يُعمل ذلك الحاكم سلطته، تنازل الناس له عن بعض حقوقهم الطبيعيّة فى مقابل حماية باقى الحقوق.ذلك الحاكم، هكذا يُنظّر هوبز، من الممُمكن أن يكون فرداً مُطلقاًMonarch  ثم يخلُفه من بعده أبنائه كما يحدث فى إنجلترا أو يكون مجموعة  من الأفراد مثل ما يحدث فى الأنظمة الديمقراطيّة والأرستقراطيّة Democracy and Aristocracy مثل وجود مجلس شعبSenate  فى روما القديمة. الحاكم المُفرد المُطلق  The Monarch فى إنجلترا مثلاً كان لا يُسأل قانونياً عما يفعله أو يُشرّعه، وإنّما هو مسئول فقط أمام ضميره وأمام الله الذّى فوضه ليكون خليفته فى الأرض. الملك ليس ملوماً ومسئولاً قانونياً على أىّ فعل أمام  الشعب ؛ لأنّه لم يتعهد لهم بالطاعة وإن كانوا هم  قد أقسموا على طاعته. ذلك الحاكم المُطلق، هكذا يواصل هوبز تنظيره وتشريعه للإستبداد وإدخال فكرة الوضع الطبيعى للحكم المُطلق فى عقول الناس، من سلطاته أيّضاً سنّ القوانين وتعيين السلطة القضائيّة وإعلان حالة الحرب  والمُعاقبة وإقرار ديانة الدولة. أمّا راعايا الحاكم المُطلق فلابُدّ لهم أن يُطيعوه وإلّا ستعود البلاد إلى حالة الفوضى والصراع الأولى كما كانت فى حالة البداوة الطبيعيّة  وهو ما يخشاه المحكومون أشدّ الخشية؛ ذلك لأنّ الثورة على الحاكم، طبقاً لهوبز، بديلُها الفوضى والشقاء للجميع. ولكن متى تنتهى طاعة المحكومين للحاكم؟..يُجيب هوبز بأنّها تنتهى بانتهاء قُدرة الحاكم على إقرار حكمه بالقوة  وبانتهاء قدرته على حماية مصالح من نصّبوه حاكماً. فلو أنّ حاكماً ما استسلم لمُناهضه على الحُكم وفقد سلطته، فإنّ رعاياه تُصبح رعايا محكومين للغازى الجديد ولو أنّه أُخذ سجيناً وجُرّد من حُريّة الحركة فلا يعنى أنّه تخلّى عن سلطانه فى الحُكم؛ ولذا فعلى المحكومين أن يُطيعوا من قدّ عيّنهم الحاكم من نواب Magistrates ، على أن يحكموا باسمه هو لا باسمهم هم .   

إنّ فلسفة هوبز الأخلاقيّة فى منشأ الأخلاق والحكم  تنبنى تماماً على أساس الأنانيّة النفعيّة  الفرديّة Egoistic hedonism، فالناس، طبقاً لهوبز كانت  تسلك وتسعى من أجل مصالحهم الشخصيّة فى الحالة الطبيعية طبقاً لما كان يُعرف بالحق الطبيعىNatural Right  فى ان يُرضى رغباته كيفما شاء وفى أن يتملك أىّ شيئ هو قادر على امتلاكه.ذلك الحق يُسمى بالطبيعىّ أو بالأحرى يُنسب إلى الطبيعة ؛ ذلك لأنّ الطبيعة منحته للإنسان الهمجى منذ ولادته قبل ان يدخل بعدُ فى حالة الدولة. ولكن عندما أقرّ الأفراد واحداً من بينهم ليكون حاكماً عليهم ، كان لزاماً عليهم أن يتنازلوا عن حقهم الطبيعىّ لصالح ما يُسميّه هوبز بالقانون الطبيعىّNatural Law  وهو قاعدة عريضة عامة يكتشفها الإنسان بعقله وهوأنّ من مصلحته أن يُطيع الحاكم وان يلتزم بما يصدره من قوانين ولسان حاله فى ذلك حالُ من يقول : لا أُريدُ أن أتخلص من سيّئ لأعود إلى أسوأ. ويقول هوبز أنّه  ما دامت غرائز الأفراد مازالت مقيدة مكبوتة Restrained، بعد دخولهم فى حالة الدولة ،إذن فهى فى حاجة إلى سلطة مستبدة Absolute monarch is true of government لتكبح جماح هذه الرغبات. وطبقاً لهوبز أيضاً ، فإن انتقال الحكم من الملك إلى ورثته الشرعيين أمرُ مقرر وغير قابل للجدل لأنّ نشوء الحكومة الأُولى جاء بوعد Promise قد أُعطى للحاكم من جانب المحكوميين الذى ارتقى بدوره لدى الأجيال بمرور الزمن إلى التزام أخلاقى moral obligation لذا ، فلا يحق للمحكوميين أن يخرجوا على الحاكم بسب ذلك الإلتزام الأخلاقى وانما المخرج الوحيد للشعوب هو تثقيف وتنوير الناس حتى ينتجوا بانفسهم حُكماً ديمقراطياً. هذه النظرة لهوبز فى الحكم هى التى قال بها جون لوكLocke  فى مقالته “العقد الإجتماعى “Social Contractغير أن الأخير يختلف مع هوبزفى أن الإلتزام الأخلاقى لا ينسحب إلى مالا نهاية وإنما يسقط ذلك الالتزام فى حالة إذا لم ينزل الحاكم على رغبة المجموع ، فيحق للمحكومين حينئذِ أن يثوروا على الحكم القائم وأن يستبدلوه بآخر يحقق طموحاتهم .

إذن فلأفراد يتنازلون عن حقهم الطبيعىّ ويلتزمون بالقانون الطبيعىّ لأنّ فيه المنفعة لهم. أول قانون طبيعىّ يلتزم به الأفراد هو انّهم يجب ان ينشدوا حالة السلام ويتبعوها، ومن الأول يصدر القانون الثانى وهو انّ الفرد ومعه باقى الأفراد لابد ان يقبل، طالما يعتقد أنّ عليه أن يحمى أمنه ونفسه، أن يتخلى عن حقه الطبيعى فى كل الأشياء، وأن يرضى بأن يكون له من الحُريّة مع باقى الأفراد مثل ما يكون لهم معه.  فمثلاً،  الحقُ الطبيعىّ أعطاك الحق فى أن تعتدى على حُرُمات واموال غيرك وأعطى لغيرك ايضاً الحقَ فى ان يفعلوا ذلك فى حُرُماتك واموالك، فجاء القانون الطبيعىّ وقيّد حُريّتك وألزمك بأن لا تعتدى  على الآخر وبذلك فهو سلبك منفعة وحقاً ولكن فى المُقابل هو قيّد وألزم آلاف وربما أكثر فى أن يمتنعوا عن الإعتداء على أملاكك، فتكون أنت بذلك الرابح  إذ قد عصمت نفسك من آلاف الأعتداءات. هذه القاعدة يُسميّها هوبز بالذهبيّةGolden Rule  نظراً لأنّها تنتظم جمسع  الأخلاق البشريّة. إنّ التخلى عن الحق الطبيعى فى الأشياء والأفعال، طبقاً لهوبز، واستبدالها بالقوانين الطبيعيّة  يتمّ ويّعملُ به من خلال ما يُعرف بالعقد الإجتماعىSocial Contract  وبذلك يكون هوبز من اوائل القائلين به مع جون لوك ورسوROUSSEU  الفرنسى. ثالث القوانين الطبيعية هو انّ ذلك العقد لابُدّ انّ يُعمل به من قبل الأفراد وإلّا يكون باطلاً. ثم تتوالى القوانين الطبيعيّة التى تُحقق المصلحة للأفراد ، فيأتى الإلتزام الأخلاقى بما يُحقق المصلحة، فيلتزم الأفراد بعشرة قوانين أُخرى وهى " الإلتزام بالإرادة الخيّرةGood Will  والتعايش السلمى المُتبادل، وتقبل أعذار المُخطئ ، وإيقاع العقوبة فقط من أجل  الردع وليس الإنتقام، وتجنب ازدراء الآخرين، والإقرار بالمساواة بين الجميع، والتوزيع العادل لخيرات الجميع ، والسلوك السليم ، وأخيراً تسوية الخلافات بالسلطة القضائيّة وليس بالحرب".  يقول هوبز بأنّ هذه القوانين الطبيعيّة الذى استبدلها مجموع الأفراد بحقوقهم الطبيعية لا تتغير ولا تزول Eternal ؛ لأنّ الجحود والظلم والعجرفة  والتسلط وغيرها لا يمكن أن تكون شرعيّة أو مقبولة لأنّها لا تعمل لصالح بقاء الجنس البشرى ، أمّا السلام Peace  وما يصدر عنه نافع مُفيد لبقاءه. هذه الجُزئيّة تدلنا ايضاً على فكر هوبز ، فالظلم Injustice   مثلاً غير شرعى لا لأنّه مرفوض من قِبل السماء فى الديانات السماويّة، بل لأنّه لا يُعزز الوجود البشرى ولأنّه يُنافى المصلحة الفرديّة فى البقاء.  وبمعنى آخر، لو أمكن وجود الظلم واستمرار وجود الجنس البشرى وجوداً مادياً وتطوره كما هو ، ما كان هوبز يُعارض وجوده ويقول أنّه غير شرعىّ. فى الواقع،  هوبز عبدُ الحياة الماديّة ، فهو لا ينظر إلى المثاليّة او القانون السماوىّ. هو لا يؤمن بما وراء الحياة الماديّة ، وإنّما يؤمن فقط بما يُعزز وجود المادة وتطورها  وهى النزعة النفعيّة الأنانيّة المُتأصلة فى نفوس الأفراد. هذه الفلسفة الماديّة فى اصل نشوء الحُكم يُمكن تلخيصُها فى قصيدة البارودى التالية:

 
وما الدُنيا سوى عجزٍ وحرصٍ              هما اصلُ الخليقةِ فى ابتداءِ
فلولا العجزُ ماكان  التصافى                 ولولا الحرصُ ما كان التعادى
وما عقدَ  الرجالُ   الوُدَ  إلّا                 لمنعٍ أو لخوفٍ  من  تعادى
وما  كان  العدا  يخفُّ  لولا                 أذى السلطان أو  خوف المعاد
فيا بنَ  أبى   ولستَ   به                    ولكن كلانا زرعُ ارضٍ للحصاد
تأمل، هل ترى اثراً؟ فإنّى                   أرى الآثارَ تذهبُ  كالرماد
حياةُ المرءِ فى الُدُنيا خيالٌ                   وعاقبةُ الأمورِ إلى نفاد
فطوبى لإمرئٍ غلبت هواه                  بصيرتُهُ , فباتَ على رشاد