الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

شاعريّة العقاد



أراد العقادُ أنْ يكون شاعراً فيلسوفاً أو فيلسوفاً شاعراً مثلما كان أبوالعلاء والمتنبى فى العربية إذا كان شيوعُ الحكمة فى شعره ينقله إلى مصاف الفلاسفة  الشعراء. لقد أراد العقاد ذلك والدليل من شعره ، اسمع له إذ يقول فى قصيدته “الشعر” :

تُفضى له ألسنُ الدُنيا بما علمتْ           فكأنما هو فى الدنيا سُليمانُ
إنّى عبدتُ الأقانيم التى جمعتْ            مافرقتْه أقانيمٌ وصلبانُ 
لولا القريضُ لكانت وهى فاتنةٌ           خرساءَ ليس لها بالقول تبيانُ
مادام فى الكون رُكنٌ للحياة يُرى         ففى صحائفه للشعرِ ديوانُ
الحبُ والشعُر دينى والحياةُ معاً         دينٌ لعمْرك لاتنفيه أديانُ 
هى الحياةُ جنينُ الحبِ من قدمٍ           لولا التجاذبُ ماضمتْك أكوانُ

لاتعجب أيها القارئُ  المسلمُ وترمى العقاد بالتسيّب فى الدين أو أنه يهرف بما لا يعرف ؛ فتلك فلسفتُه وتلك رؤيتُه للشعر والحب والحياة…..يالها من دقة فى التعبير !! كيف للمرءِ أن يتمثل إحساسَ العقاد لولم يكن مُلماً بالفلسفة اليونانية القديمة.  الأقانيم  جمع  أُقنوم  وهو كلُ ماشخُص وليس له ظلُ وهو، كما يُقال فى المسيحية ، جوهرالله وهو عندهم مُثلثُ ألأقانيم ، أى له ثلاث تعيّنات ؛فلآب والأبن والروح القدس هم الله ولافرق بين الثلاثة وليس هناك ثلاثة شخوص بل هم أقنوم واحد وثلاثة بالتعينات كالشمس يصدر عنها الضوء والحرارة وهما الشمس بعينها .

العقادُ عبدُ الأقانيم التى ألّفت واتفقت عليها كل الملل والطوائف التى فرقتها القساوسة حينما ذهبوا بالمسيحسة الصرفة كل مذهب وانقسمت إلى اثنين وسبعين شعبة . ليس أحدُ مهما كان يختلف على حبه وتقديسه للحياة والحب والشعر وهم بمثابة الأقانيم التى لا تنفصل ؛ ذلك أنه لولا الحب ماكانت الحياة ، وتلك الفكرة مبثوثة فى الفكر البشرى من لدن أفلا طون وأرسطو مروراً بالمسيحية.  تلك الفكرة ، فكرةُ الحب التى ولدت العالم، مذكورة فى الأناجيل " هكذا الله احب العالم حتى بذل ابنه الوحيد ليخلصه من الشرور والأثام “..وعند أرسطو أن الحياة ماهى إلا حركة والحركة فى الكون قائمة بسب حب العاشق ، وهو الكون، للمعشوق وهو الله ؛ فالله عند أرسطو لم يخلق العالم بل يحركه بغير مماسة وإلا كان الله عرضة للحوادث ، بل يحركه كما يحرك المعشوق عاشقه . فالكون المُتصف بالعجز والنقص والحاجة ،على العكس من الله الكامل،  يتحرك حول المعشوق حباً له .إذن لولا الحبُ ماكانت هناك حركة ولولا الحركة ماكانت هناك حياة ؛ فلأن هناك عشق بين الخالق والكون كانت هناك حركة توحى بالإنسجام بين أجزاء الكون من جهة وبينها وبين معشوقها من جهة أخرى .وفى التجاذب بين أفلاك الكون دليل حسى على الحب والإنسجام الذى عكسه التنافر والتدابر وهذا يُصدّقه الواقع المُحَسُّ .فأنت عندما تعشق شخصاً فإنك لم تكد تلمحه حتى تُقبل عليه بنفسك أولاً ثم ببدنك ثانياً فتحتضنه وكأنما صرتما إثنين فى واحد ، وعلى النقيض فلو كنت تبغضه إذن  لدابرتَه ووليّت عنه وولّى عنك ، ذلك لأن العشقُ حُبٌ دليلُه التعشق وهو فى اللغة دخول الشئ فى الشئ حتى يصيرا كأنما واحد وماهما بواحد والكره دليله المادى التنافر وهو عكس التجاذب .ولك أن تتصور أن جاذبية الكون قد ضاعت ، ماذا يتبقى من الكون ؟! إذاً هو الدمار والخراب .أنظر إلى عمق العقاد وكيف يجمع بين اللاهوت المسيحى العميق ورؤيتهم لذات الله وبين التفلسف القديم وبين فيزياء التجاذب وصياغة كل ذلك فى قالب دقيق من الشعر !

إذن فالحياة وُلدت من رحم الحب الألهى الذى أخرج الوجود من ذل وفاقة العدم  حُباً فيه فبادله الكون حباً بحب فتحركت نفس الكون شوقاً إلى الله تماماً كما تتحرك نفسك ويتبعها بدنك – ربما غير شعورياً- شوقاً إلى معشوقك إذا مر فى الطريق .والشعر بدوره تعبير صادق عن علاقات الموجودات بعضها ببعض .والشعر نفثات الشعور والنفس الأنسانية وهو أسبق من الفكر .فهو موضوعات حُب وبغض وأمانى ومخاوف البشر ، وليس قصارى الشعر أن يُشبه لك الأشياء بعضها ببعض ، بل ينقل أحاسيس الشاعر اتجاه الأشياء ويطبع صورة فى مخيلتك مثل تلك التى فى مخيلة الشاعر .الشاعر الحقُ هو من يخلع على الجمادات من أحاسيسه مايجعلها تعجّ بالحياة .الحياة ،مجرد الحياة ، عند العقاد ، متعةٌ أيّما متعة للعقل والشعور الإنسانى ، ولكن الشاعر ينفعل برؤية الأشياء وهى تنفعل له فكأنما تبوح له فهو يستنطقها .لقد كان داود النبى وسليمان يسمعان تسبيح الجبال والطير لله وكانت هى تردد وراء أو مع داود ، تلك الجمادات ليس موات بل فيه درجة من درجات الحياة والشعور .فعندما يستنطق الشاعر تلك الجمادات والعجماوات من الحيوان ويخلع عليها من شعوره فكأنما هو داود وسليمان حقيقةً. ومادامت هناك حياة فلابد أن يكون هناك شعر إذ هو ترجمان الحياة التى هى شعور الإنسان من حب وبغض ويأس وامل الخ…

                                             ..يُمكنك أن ترى : ملحمة ترجمة شيطان للعقاد
Enhanced by Zemanta

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق