الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

بوذا والعدمية Buddah and non–existence

أخبر شخصاً بوذا أنه يريد السعادة. فأجاب بوذا "اولاً أحذف ’أنا‘ ثم احذف ’أريد‘ لا
."يبقي غير السعادة 

`بوزا هو لقب  يعنى المستنير وهو اطلق على علم اسمه جوتاما سدهارتا  وهو كما يقال ابن لأمير ولد فى اقليم نيبال شمال الهند وقد حرص أبوه الأمير أن لا يريه أى مناظر الألم والشقاء  ؛ اذ  قال له بعض حاشيته أنه  ، أى بوذا ، اذا رأى مناظر الألم والبؤس  من الجوعى والعجزى و المرضى فانه سوف يترك الامارة ويزهد اذا  أنه قد أعطى شعور مرهف  وتعاطف انسانى كبير . لذا فقد عمل والده جاهدا على أن يجعل من قصره  دنيا تعج باالملذات من نساء وطعام وشراب وكل ما يحلم به أمير ، الا أن الحظ قد أبى الا أن يرى بوذا مناظر الشقاء  ، فبينما هو راكب مركبته اذا بمنظر رجل يتوجع ألما  ، فتعجب بوذا سائلا سائق عربته  : اوسنتوجع نحن مثل هذا الرجل  ؟ أو لسنا قد عبرنا مرحلة الألم  فليس هناك مرض ؟!! فتعجب سائقه قائلا : لا يامولاى   ، نحن لم نعبر بعد  ولا بد لنا أن نمرض  . ثم يمر بوذا بمنظر رجل جائع  ، ثم رجل يقاسى سكرات الموت ، وفى كل مرة يسال بوذا سائقه نفس السؤال  فيجيبه نفس الجابه .  ويعزم بوذا على عدم العودة ويتخذ كهفا سكنا له ويزهد فى كل لذة ويمارس أقصى ؟أنواع التقشف والحرمان  ظنا منه أن ذلك يقيه أى ألم مستقبلى………مارس بوذا التقشف والحرمان لخمسة سنوات حتى اذا كاد أن يفنى  “ استنار “ ذهنه الى الطريق الوسط القويم ذى الثمانى شعب …

تحليل المعاناة :

  • رأى بوذا أن لا مفر مطلقا من المعاناة ؛ فالمعاناة صفة لازمة للوجود الأنسانى ؛ اذ لا يعانى من هو غير الموجود . فلا مفر من المرض أو الموت أو الجوع أو الشقاء والحرمان وهذه هى المعاناة الصريحة المباشرة
حتى اللذة يتخللها ألم  ومعاناة  وهى ألام ناجمة عن التفكير خوف مفارقة اللذة كما قال الشاعر : لا طيب للعيش ما دامت منغصة **** لذاته بادكار الموت والهرم   ، فليس هناك لذة خالصة  ، بل هى منقوصة اذ يتخللها القلق والخوف لفراقها وهذه هى المعاناة غير المباشرة غير الصريحة.لا يرى بوذا اغراق النفس فى الملذات طريقا صحيحا للقضاء على الألام  . فلو أمكن حاكم أن يغرق شعبه فى اللذاذات  لما أمكنه أن ينذع عنهم خواطر القلق والموت وفراق الحياة..لا يرى بوذا أيضا أن الزهد والتقشف والحرمان طريقا ناجحا للقضاء على الألم  ؛ فذلك ليس فى مقدور كل البشر …. تطرق بذا الى السؤال الأتى  : لما المعاناة  وكيف نعانى ومن الذى يعانى  ؟ ..وبعد تحليل طويل توصل بوذا الى أن منشأ المعاناة مرده الى   رغبات واشتهاءات النفس والتعلق بها  فلو لم يكن هناك رغبات لما كان هناك خوف لفراقها وهى موجوده أو ألم وتحسر عند عدم الحصول عليها . اذن عدم التعلق برغبات النفس هو الخلاص من المعاناة .ولكن  : ما النفس ؟ خلص بوذا الى أن عنصر من مكونات الوجود الا نسانى وهو ألأنا The I هو مناط التعلق بالمعاناة والرغبات لذلك فهو موضوع المعاناة  ، فيقول من أصيب بالسرطان مثلا  : أنا أصبت بالسرطان أنا سوف تبتر قدمى  أنا سوف أموت . ان هذا الاعتقاد الراسخ بجوهرية ألأنا هو سبب المعاناة …ذلك الايمان الجازم بجوهرية النفس وطبيعتها الخارجية السرمدية هو علة المعاناة ..فالانسان منا يعتقد ان نفسه قد هبطت عليه من خارج الحياة والظروف المادية التى يحيا فيها  ، فيتساءل : كيف تسلبنى الحياة شيئا جوهريا علويا سماويا  ؟ الحياة لم تمنحنى نفسى لتأخذها منى  !!!!هذا هو موضع الخطأ  ومن هنا يأتى رأى بوذا فى  النفس وطبيعتها وطبيعة العالم الخارجى التجريبى الذى نحيا فيه 

طبيعة النفس والعالم :

تعتقد كتب الفيدا ، وهى أقدم الكتب الأدبية التراثية الهندية وهى تحوى أجزاء فى تمجيد الألهة وتقديم القرابين  وتلاوة العزائم والرقى  ،أن النفس أتمان لها طبيعة جوهرية مطلقة وهى نفسها عين براهمان الخالق ، ولكن بوذا يعتقد فى مذهب  ألاأنا Anatta  وهو الذى يرمى الى لا جوهرية النفس  فليست النفس جوهر مطلق قائم بذاته  بل هو معلول لعلة خارجة عنه  وفى ذلك يعتمد بوذا على مذهب  النشوء المتبادل   ،  فليس هناك علة سرمدية واحدة عللت وجود باقى الأشياء ، بل ان كل شئ يعتمد فى نشؤه على الأخر .. ذلك المذهب هو لب المذهب البوذى فى المعاناة  ؛ فطالما أن النفس لا جوهرية ولم تهبط علينا من خارج الحياة المعاشة  ، فهى  اذن  من صنع الحياة ذاتها  ،  فاذا  سلبتنا الحياة شيئا فلا يصح أن نأسى عليه  لأنه يعود الى الحياة التى منحته لنا   فليست النفس بهذا المفهوم  ، الاأنا  ، غريبة عن الحياة  ، لذلك  فيجب عليهما الا يتعاملا كهازم ومهزوم  ، كرابح وخاسر .أما عن طبيعة العالم  ، فبوذا يقول بمذهب الزوال Annica الذى يرمى الى لا جوهرية العالم بأشياءه..فهو يعتقد مثل أفلاطون أن موضوع المعرفة الحسية  وهو هذا العالم التجريبى ، متغير   فلا يمكن للمرء أن يستحم مرتين فى نفس النهر كماقال هيراقليطس الفيلسوف اليونانى …ولكننا لا يمكن أن نجزم م اذا كان بوذا قد اعتقد فى  عالم سرمدى ثابت  مثل عالم المثل عند أفلاطون وهو عالم يكون موضوع تعقله هو العقل وحده  وهو الذى يمثل المعرفة الحقة..لذلك فانك لا يمكن أن تستنبط ما اذا كان بوذا يؤمن بوجود اله أم لا ..فليس معنى أنه لم يؤمن بجوهرية وتبات الطبيعة  أنه يؤمن  أو لا يؤمن بوجود  اله وراء العالم المتغير…فلسفة بوذا لم تتعرض للجانب الميتافيزيقى  ، بل هى فلسفة عملية تعالج موضوع المعاناة المعاشة .فهذا العالم التجريبى موضوع التجربة الحسية عالم متقلب  ، تنتقل فيه الأشياء من حالة الى أخرى بفعل الصيرورة  Becoming

ما الذى يدفع الانسان الى المعاناة :

المرء يعانى لأنه يتشبث برغباته أو يتحرق لتجنب أشياء بعينها والذلى ينشئ التشبث هو وجود الرغبة فى شئ ما  والذى ينشئ الرغبة هو الادراك لموضوع الرغبة  وتلك تنشئها الانطباعات الحسية ولم تكن هناك انطباعات حسية لو لم يكن هناك حواس ستة وتلك الحواس أوجدهما وجود الجسم والعقل والشعور بهما كمتمايزين عن الحياة  والذى يأتى بدوره من  الوعى Consciousness والوعى بدوره  يعتمد على وجود الدافع للفعل  ذلك لأن الوعى ما هو الا مجرد فكرى أو فكرى عملى يتمثل فى تناول الأشياء والذى يولد الدافع للفعل  أو وجود النشاط سواء ذهنى أو عملى  هو  الجهل Ignorance …والجهل هنا معناه الجهل بحقيقة ما يسمى  “ بالنفس “  فليست النفس البشرية مكون سماوى خارج عن الحياة  بحيث يكون مستقل بذاته وسرمدى  ولا يصيبه النقص أو الزيادة . فالجهل بحقيقة النفس هو أساس المعاناة والبلوى  ، فليس النفس ، طبقا لبوذا ، الا مجموع تلك العمليات مجتمعة  ، فليس هناك مبرر منطقى لافتراض عنصر خارجى مكون للنفس خارج تلك العمليات .وطالما أن الجهل يولد النفس فلا محالة من وجود مرحلة تشيخ فيها النفس وتموت  ، ولا نقصد هنا الموت الطبيعى  ، بل لقد ضرب ببوذا الشيخوخة والموت  مثلين كبيرين على أشد المعاناة للنفس التى تولد ..ولنضرب مثالا  نبين به مجموع العمليات  ونقول : أنت حينما ترى فتاة تقابل فتاة جميلة  فانك تشعر بها وتعى بوجودها ، أنت تعى بوجودها لأن لك ارادة للوعى  فارادة الوعى سابقة على الوعى  ليس سبقا زمنيا بل سنقا منطقيا  ؛ فارادة الوعى هى علة الوعى وليس سببه  : انت تعى بالفتاة وجودها وحديثها ومشيتها  لأنك تريد أن تنتبه او تعى لها  ، اذن  فالمرحلة الأولى هى ارادة الوعى بالفتاة وهى الدافع لفعل الوعى  ، والمرحلة الثانية هى الوعى ذاته ، و هوالذى ينشئ الا دراك للفتاة بكل خصائصها والادراك يولد الانطباعات الحسية تجاه الفتاة من اعجاب وحب  وهى بدورها تؤدى الى وجود الرغبة فى الفتاة  والرغبة تؤدى الى التعلق والتشبث بها  ، ذلك التشبث بموضوع الرغبة ، الفتاة ، يولد أنا جديدة تضاف الى باقى ألأنات  وهى التى تكون الذات Ego أو الشخصية  ، فعندما تتحرق وتتعذب شوقا الى تلك الفتاة وللحصول عليها  وتفشل  ، فهذا هو موت لتلك النفس وهو قمة الألم والمعاناة . فالشيخوخة والموت هى أمثلة لمجموع العذابات التى تصيب الأفراد وتشمل الشيخوخة الطبييعية والموت الطبيعى للنفس .واذا لم يكن هناك  “ ميلاد “ للنفس فمن الأحرى ألا يكون هناك موت لها .

بوذا والعدمية  

وربما يسأل سائل : هل يعنى ذلك أن اللاوجود والعدمية Non-Existence in هى الخلاص من منظور بوذا  ؟ …. لا .. لقد أخطأ الكثيرون فى تفسير فلسفة بوذا للتخلص من المعاناة  ، فهى عندهم تحض على السلبية وعدم اتخاذ فعل أو رد فعل اتجاه الوعى والشعور .وهذه حق ، فما دامت هناك حياة فلابد من الوعى بها ووجود الادراك لموضوع الرغبات  وبالتالى وجود الرغبات نفسها والتشبث بها ولولا تلك العمليات  لما كانت هناك حياة ، ولكن بوذا لا ينفى أو يحض على كبت تلك العمليات  وانما يحض على التخلص من الجهل بحقيقة النفس..فلا يمكن منع العمليات التى تنشأ من قوة الصيرورة The Cycle of Becoming  ولكن علينا أن نفرق فى حياتنا اليومية بين  مجموع العمليات وبين ما يسمى بالنفس  ،  فما النفس الا مجموع العمليات التى شكلتها قوى الحياة وصاغتها على نحو من الأنحاء ، والتعلق الكبير بالمجموعات هو الذى يجلب الشقاء وليس المجموعات ذاتها … وكأن بوذا يقول  " ليس هناك شئ اسمه لا يمكننى الأستغناء عن هذا أو ذاك  .ليس هناك لازم وضرورى . ليس هناك نفس أصيلة جوهرية هبطت اليك من السماء بحيث تكون غريبة كل الغربة عن الحياة . فالحياة نفسها التى صاغت لك عقلك واحساسك على نحو من الأنحاء هى نفسها التى تسلبك ما تمنحك   ؛ فكل شئ منها واليها يعود .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق