الجمعة، 9 نوفمبر 2012

العبقرية وتطوراتها


تطورت فكرية العبقرية ومنشأها بتطور الفكر البشرى ، فكلمة عبقرية فى اللغة العربية مُشتقة من كلمة " عبقَر" وهو وادى  ، كما يُقال، كانت تسكنُه الشياطين. من هنا جاءت عبارة " شاعرٌ عبقرى " أى مُلهم من قِبل الشياطين ، أى يأتى بما ليس فى وِسع البشر ، فيأتى بخوارق التعبيرات ودلائل التعبيرات. وذات الكلمة العربية تُماثلها الكلمة الإنجليزية ذات الأصل الإغريقى القديم وهى "Genius"، ومن معانيها قديماً " الروح المُعاونة أو المُرافقة accompanying spirit"...تطورت أيضاً فكرة العبقرية فى العصور الوسطى إلى القُدرة الخلّاقة المُبدعة والتى اساسُها زيادة أثر خليط السوداء black bile  عند العبقرى ، فكلُ عبقرى يأتى بما ليس فى وِسع عموم البشر يلزمه أنّ يكون كئيب حاد الطبع نكدُه. ذلك التصور للعبقرية اتى نتيجة اعتقاد أصحاب القرون الوسطى أنّ هناك أخلاط أربعة فى الجسم البشرى هى المسئولة عن المِزاج العام للإنسان ، فإذا كان الإنسان بارد لا يتأثر ولا ينفعل  لدواعى الإنفعال التى ينفعل لها غيره فإنّه يكون "بلغمى المِزاج phlegmaticنسبة إلى البلغم الذى يخرج من جوف الإنسان، وإذا كان ميلُ الإنسان الإكتئاب والتزمت الشديد والتقطيب والشكوة المرة والتسخُّط على الواقع فإنّه يُسمى "سوداوى المزاجmelancholic "....وانا أعتقد أنّ نسبة ذلك الطبع الى العباقرة راجع إلى مُشاهدة الناس اليومية لحالات العبقرى ، فالعبقرى ، هكذا أعتقد ، يُريد أنّ يُغيّر مفاهيم وعادت قد ضربت بجذورها فى نفوس الناس فأصبحت كأنّها بديهيات لا تقبل الجدل ، والناس لا تُريد وتخشى أن تُريد تغير ما تعودوا عليه ، لأنّ التغيير، تغيير المفاهيم ، يحتاج إلى الإعتراف بالخطأ والقصور وإلى زعزعة الثقة فى النفوس التى اعتنقت أنّها مُسلمٌ بها، وذلك من الأشياء الصعبة على النفوس ...من الصعب أن أهدم بناء عقلى كله ثم أعيد بناءه مرة أُخرى على أُسس مُغايرة أخرى ....من الصعب أنّ أفقد الثقة فى نفسى  وفى تصوراتها للإشياء. لذلك فالعبقرى يكون نكد وحاد الطبع وكئيب فى مواجهة الواقع المرير الذى يتأبى على مفاهيمه المُغايرة الجديدة.....ثم تقدمت العلوم وفسيولوجيا وظائف الأعضاء، فربطوا بين العبقرية والجنون إلى درجة أنّ الطبيب الشرعى وعالم الإنسان الإيطالى " لومبروزو" ألّفَ كتاباً أسماه "العبقرية والجنون" حيث أنّه من لوازم العبقرى أنّ تكون فيه مِسحةٌ أو مسٌ  من جنون  لدرجة أنّه قام بإحصاء قال فيه أنّ مُعظم العباقرة لم تخلُ  شجرة العائلة عندهم من شخص مجنون ، وذلك ما أعلنت عنه الدراسات النفسية....وأنا أعتقد أنّنا نربط بين العبقرى والجنون ،ذلك لأنّ أفكار الأخير تُجاوز مُتوسط أفكارنا ؛ لذلك فهى غريبة علينا و غير متوقعة  فه من هذه الناحية تشبه أفكار المجنون الذى قد يُفاجئك بما لا تتوقع من غريب أو مُحال الأفكار، ولأنّننا نعجز بكاملنا عن فهم وإدراك أفكار العبقرى التى تتجاوز الزمن الحاضر وتنفُذ إلى المُستقبل ، فإنّننا نتهمه بعد العقلانية ...ولكن فى الواقع العبقرى ليس بمجنون لأنّ  الناس تعترف بذلك وتقول فيه :شيئ من جنون" وليس كل الجنون ،ألا وهو غرابة الأفكار التى تتجاوز المألوفات التى درج عليها الناس، أمّا المجنون الحقيقى فهو الذى يأتى بأفكارٍ غريبة ثم يعود فيُناقضها ثم يأتى بأخرى ثم يُناقضها وهو دائما هكذا ، فلا يُمكنك أنّ تتنبأ بسلوكيّاته لأنّها غير مُطّردة...تطور أيضاً مفهوم العبقرية فى القرن العشرين ليضم إليه عنصر الخيال فهو مكون أساسى عند فى تكوين العبقرى، ولكن فرويد ، عند حديثه عن الخيال ، لم يُفرق بين درجتين من درجات الخيال، وأولها الخيال التافه الهروبى  الذى يعمُد إلى الهروب من الواقع  وأليته فى ذلك الخيال هى أحلام اليقظة ، فالشخص  الذى يعجز عن تحقيق أحلامه فى أرض الواقع فيتخيلها  يعيش فى محض خيال تافه مثل خيال الأطفال...والدرجة الثانية من الخيال هو الخيال الجادّ الذى يحاول أنّ يجمع ، مثلاً، بين الأضداد فى النفس الأنسانية ، فيكشف بذلك عن تركيبة مُختلفة لم نكن لنُدركها  وإن كنا سوف نُدركها فيما بعد ، ولذا يُقال أنّ العبقرىّ سبّاقٌ لزمانه....مثلاً،  الجمع بين الإقدام والترددج والإحجام فى شخصية هاملت يكشف عن مرض نفسى وعن تركيب نفسية جديدة  لم تُكتشف إلّا بمقدوم فرويد نفسه. ذلك الخيال أيضاً يُمكننا من بناء تصورات منطقية جديدة عن الكون والعالم ، فأينشتاين نفسه، وهو هنا يُضرب به المثل فى الخيال الجاد البنّاء، ما كان يُمكنه إكتشاف النسبية لو لم يكن يتخيل أوضاع المُسافر بسرعة الضوء ورؤيته للحوادث وتمددها أو تقاصها نبعاً للزمن وعدل تسارعه، وكذلك غيّر أينشتاين تصورنا للجاذبية فلم تعد هى القوى الخفية التى تربط أجرام العالم عن بُعد ، بل هى قوة ناتجة عن انحناء الفضاء ، فالفضاء مسطح إقليدى وهذه هى القاعدة ولكن حيثما وُجدت هناك مادة  فإنّها تُغيّر من الصفات القياسية للفضاء فيصبح الفضاء مُحدباُ مُنحنياً وهذا هو الذى يوّلد التجاذب..ولذا يُعرّف أينشتاين الفكر بأنّه” لعب إرادىّ بالتصوراتconscious playing with the concepts " وليس عمل على درجة عالية من الوعى  والتفكير الُحدّد لنقل ، مثلاً، سيئ من النقطة (أ) إلى النقطة(ب) كما يُعرفه فرويد ، ولذلك فقد احتقر فرويد الخيال، كل الخيال، الذى ، كما يزعم هو سمة الفنانين الأصلية أمثال الشعراء والمصورين والموسيقيين، وحتى أعاظم العلماء. يقول فرويد بأنّ الفنان إنسان إنطوائى بطبعه ،لذا فهو معصوب  وهو كباقى الناس يُريد تحقيق أحلام غريزية مثل جمع الثروة والشهرة وحب النساء والقوة ، وعندما لا تواتيه تلك الرغبات فهو ينسحب من الواقع المرير ويهربescapism   إلى عالم الخيال " أحلام اليقظة" ليحققها، فتلك الجدّية الذى يعامل بها الشاعر موضوع خياله ويتمثلها فى نفسه هى إبداع ينتج عن هروب من الواقع المريرescapism ويقول فرويد أيضاً أنّ الفنان المعصوب الهارب يوجّه كل نشاطه الحيوى Libido  إلى أعماله الفنية ، وفى ذلك إشارة إلى نظرية تسامى الجنسSublimation of sex   وهى أنّ تلك الطاقة اجنسية الماديّة المكبوته تنضح على شكل إبداعات فنية سمية ، فالإنسان عند فرويد يُبدع الفنون والفلسفات والموسيقى والأفكار  الجليلة  بأثر من تسامى الجنس !...وهذه النظرية هى ساقطة فاشلة تماماً ، فإن كان صحيحاً أنً مُعظم العباقرة لم يتزوجوا أمثال نييوتن وديكارت وفان جوخ وشوبنهور ونيتشه وأبو العلاء المعرى وغيرهما كثير ، فذلك لا يعنى أنّ المادة الكثيفة الخسيسة التى موضوعها الجسد تتحول إلى أفكار رفيعة موضوعها العقل ، فلو صحّ ذلك لصحّ أن تتحول المعادن الخسيسة كالتراب إلى ذهب كما زعم الكيمايئيون فى فلسفة إكسير الحياةelixir of life .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق