السبت، 13 أبريل 2013

الوجود والعدم

                                              

" ما كان الأمرُ قبل الأمر ؟ ".  "كان الله فى عماء وكان عرشُه على الماء"......هكذا سألَ أحدُ الصحابة ، وهكذا أجاب خاتم الرسالة صلّى الله عليه وسلّم. قضيّةُ الوجود والعدم لا يفصلُ فيها الوحى. من المُعضلات التى أرهقتْ فكر الفلاسفة وأجرتْ مدادهم على مرّ العصور. أسئلة كبيرة وقضايا كُليّة مثل ، من خلقنا ؟ وما غاية وجودنا ؟ وهل نحن مُسيّروون أم مُخيّروون؟ ، وإذا كنّا مُسيّرون  فكيف يتفق ذلك والعدل الإلهي والمُحاسبة ؟ وإذا كنا مُخيّرون فكيف يتفق ذلك مع الواحديّة لّله جلّ جلاله ؟ واجواب فيما أراه كالتالى :
الإنسانُ منّا جسدٌ وروحٌ وبما أنّ الجسد فانٍ، إذن فهومُحدثٌ مخلوقٌ، ولكن هل تفنى الروح، وهل هى خلوقة مجعولة بالله ؟ وإذا صخّ ذلك ، ألا يتعارض هذا مع عدالة الله ومُجازته لها لأنّها هى العاقلة التى تُضمر السوء وتأمر الجسد وتحُثّه على ارتكابه ؟ وإذا كانت خالدة أبديّة غير مخلوقة ولا مجعولة، فكيف يصحّ أنْ يكون مع الله السرمدي الواحد خالدٌ يُزاحمه فى الأبديّة والصمديّة ؟ هناك أقوال قال بها العارفون الصوفيّيون نُمهدُ لها بمُقدمات هى بديهيّة :
(1) - الّله كامل الكمال المُطلق وهو عادلٌ دائماً أبداً.
(2) -الكمال يقتضى أن يُخرج الّله إلى حيّز الوجود أكبر قدر من المُمكنات.
(3) - إذن، الّله، الكامل العادل ، لا يُجبر إنساناً على إرادة شيئاً ما.
(4) - إذن، الروح ، وهى محلُّ الإرادة العاقلة وليس الجسد، لها نوازع غير مجعولة ، أبديّة، أىّ لها حقائقٌ أزليّة ثابتة.
(5) - قال العارفون، ليس فقط الروح من لها تلك الحقائق ، بل كلّ شيئٍ فى الوجود غيْر الّله الواجب الوجود.
غيْر أنّ هُناك آيات كثيرة من الذكر الحكيم تُدلّل علىقيّوميّة  الّله على عباده، مثل ، " وما رميْتَ إذْ رميْتَ، ولكنّ الّله رمى "، " وهو معكم أينما كنتم " ، و" قلْ إنّ الأمرَ كلّه بيد الّله ". فكيف، على سبيل المثال ، نوفق بين الرميْة التى فعل وقدّ سبقها عملٌ قلبيٌ  وهى النيّة والتوجه ، وبين كون الله هو الذى رمى ؟ إذن، قال العارفون أنّ كلّ المُمكنات كانت أعياناً أزليّة لها حقائق فى العدم وخواص وصف وهى الإفتقار إلى الله والّلجوء إليه ليُخرجها من العدم ( الذى ليس أسوء وشرّ منه شيئ) إلى حيّز الوجود. كلّ المُمكنات، وهى كل الموجودات ماعدا الله لأنّ الله واجبُ الوجود، ما كان ، وما هو كائنٌ ، وما سيكون إلى أبد اآبدين، كانت لها أعياناًأزليّة فى القِدم فى العدم. ذلك العدم كان له  صلةٌ حوارٌ مع الّله الوجود المُطلق، فهو دائمُ الإفتقار إليه ليُخرجه من ذُلّ وفاقة العد المحض إلى عزّ وغنى الوجود. فجاد الّله بقيّوميّته  على أعيان العدم ،وهو دائمُ الجود ، بأن ألبسهم لُبسة الوجود، فتحيّزوا بحيز الوجود الفعلي.
إذن فطبائعُ الأرواح قديمة أزليّة غير مجعولة، ولو كانت على غيْر ذلك ، لكان الّله قدّ غيْر حقيقتها ، وحاشا لّله أن يُحاسب من جعله هو على وضعٍ ما. فإبليس له طبيعة أزليّة كانت فى العدم  وهى الكِبْرُ ، وكونُ اللّه عالماً مُسبقاً بتلك الطبيعة لا يعنى إجبار إبليس على اتخاذ تلك الطبيعة. يقول العارفون : هُناك من الإعيان القاتمة السوداء من لا تتضرّع إلى الله ولا تطلب الوجود فنظلّ كذلك عدماً محضاً. إذن، فنحنُ، وكلُ موجودٍ يشغلُ حيّزاً، موجودون وممنوعون  من هاوية الرجوع إلى أُصولنا فى العدم، أىّ الرجوع إلى كوننا مُمكنات موجودين بالقوّة وليس بالفعل، بمددٍ من الّله وباتصالٍ دائمٍ معه. فهبْ أنّ التيّار الكهربي قدّ النقطع فجأة، فهل تبقى الصورة؟ وهبْ أنّ اتصالَك  بالمرآة قدّ انقطع ، فهل كانت تظلّ صورتُك بالمرآة ؟
الّله يتجلّى فى الموجودات ليُمدّها بمدد الوجود ، وهو دائم التجلّى، لا يتجلّى بذاته، سبحانه ، بلّ بصفاته، فيُكسبهم من صفاته كالوجود، والقدرة، والعلم،والسمع ، والبصر .....إلخ. يتجلّى سُبحانه ، وله المثلُ الأعلى ،كما تتجلّى أنت فى المرآة، فأنت لم تحلُلْ فى المورآة وإلّا لصحّ القولُ أنّك داخلُ المرآة. والّله يتجلّى فى الأعيان على قدر قبولها واستعدادها لذلك التجلّى، فأنت، مثلاّ ، واحدٌ أمام المرآة المُعتمة ونصف المُعتمة ، والمصقولة، وإنّما تعكس كل واحدة منها صورتك على قدر استعدادها ونقائها لتقبلّ الصورة.
وربّما يسألُ سائلٌ كما  سأل الأقدمون: الّله واحدٌ بالعدد، فكيف تنجم عنه تلك الكثرة الكاثرة من الموجودات، الأمرُ حيرةٌ فى حيرة ، كثرةٌ مردُّها إلى واحدٍ وواحدٌ تكثّر !! ". ويُجيبُ العارفُ الصوفى: وما الوجهُ إلّا واحدٌ غير أنّه ................... إذا أنت عدّدتَ المرايا تعدّدا
فالتجلّى واحدٌ ولكنّ القابلات التى تتلقى التجلّى كثيرة، الّله فاعلٌ والأعيان قوابل تستقبل التجلّى. ومن هُنا أخطأ ابن عربي حينما اعتقد أنّ الله فى حاجة إلينا كما نحن فى حاجة إليه؛ فهو يُمدّنا بمدد الوجود ونحن موضوعات أو محلات لعمل صفاته. تعالى الّله عن الإحتياج، فالله غنيٌ غنى مُطلقٌ عنّا، ونحن الفاقةُ والعدمُ طبائعُنا. قيّوم السموات والأرض ، سبحانه ، تعالت ذاته، وتقدستْ أسمائه وصفاته. الّله قائمٌ على وجود السموات والأرض ، أيّ هى قائمةٌ به وبمدده لها بالوجود فى اآنات المُتعاقبة، فهى غير قائمة بذاتها، فقدّ تفرّد الله ،جلّ جلاله، بذلك. يُمكنُنا أن نقول ، ولّله المثلُ الأعلى، أنّ علاقة الله بكونه كعلاقة روح الإنسان بجسده. فالروح غيرُ مُتصلة بالجسد وإلّا لنقصت ْ عند انفصال جارحه أو عضوٍ من الإنسان، وهى ، فى ذات الوقت ، غير مُنفصلة عنه وإلّا لما توالت علينا أحلامٌ فى المنام العميق. فأنت قدّ تُجرّد إنساناً من قدميه وذراعيْه ومن نصف رئتيه وكُليتيْه وهو ما يزال حيّاً يشعُر ويُدرك. إذن، فالروح مُلازمة للجسد الإنسانى ولا تتلبسه. هكذا الله فى علاقته مع كونه، فلا هو يتلبسُ الكون كما قال سبينوزاSpinoza  القائل بوحدة الوجودPantheism  حيث أنّ كلّ فكرة وخاطرة وشعورٍ يتطرق إلى ذهنك ، وكلُ نبتة تخرج من الأرض وكلُ ما هو موجودٌ  هو منه كعلاقة الجزء بالكل ، ولا هو مُغايرٌ كلّ الغيرة للموجودات، بل هو مُلازمٌ للموجودات ، قائمٌ على وجودها، وفى اتصالٍ مُستمرٍ معها.
إذن، فلك التوجّه القلبى والضمير والنيّة وتلك هى طبيعتُك منذ الأزل فى العدم ، ولّله القوة والفعل، فإذا أردت ( وهذا هو عملُ الروح وتوجّهُها الأبدى) أن تتجبّر وتبطش ظلماً وعدواناً  بمسكينٍ، قال الله لك : هاك يدى فابطش بها، وإذا أردتُ أن تمسح بها على رأس يتيمٍ مسكينٍ، قال الّله لك : هاك يدى فامسح بها. ونحن مازلنا فى عدمٍ فى كل آنٍ، فيُفيضُ الله علينا بالوجود فلا ننعدم. إذن فليس الروحُ تُخلق ُ ساعة الميلاد ولا هى مُحدثةٌ أصلاً، وإنّما هى عينٌ ثابتة قديمة فى الأزل المحض.

Enhanced by Zemanta

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق