الخميس، 4 أبريل 2013

كيف نُريد أن نُريد؟

                                                                                

معظمُنا لايعمل، ليس فقط لأنّنا لا نُريد أن نعمل بل لأنّنا لا نعلم كيف نُريد، ونعتقد أنّ الإرادة مفصولة عن العمل ، فتأتى الإرادة أولاً ثم يستتبعها العمل ثانياً، وهذا خطأ فى فهم العمل والإرادة. وقد أرسل مُسائل الى الإستاذ عباس محمود العقاد يسأله " ماذا نعمل" عمّا إذا كان من الأنفع له و للمصلحة العامة أن يتزوج أجنبيّة أو مصريّة، فقال فى سؤاله : " أطلب إلى سيدى الإُستاذ أنُ يُتبع هذا المقال - وكان العقاد قد كتب مقالاً عن مساوئ ومحاسن الزواج من أجنبيّة-  بنفحة أخُرى تُبين لنا ما  نعمله لنبلُغ من أمرنا ما نُريد ، وأرجو ألّا يعتبر منى هذا اقتراحاً أو ما فى معناه وإنّما هو محضُ استزادة من خير علمك العميق النظيف" ، فكان الجواب كالتالى :
وهذا سؤالٌ حقيقٌ بأن يُسأل ، وكنتُ أودُ أن يُسأل فهو حقيقٌ بأن يُجاب.
وجوابى للأديب أنّ حاجتنا الكُبرى إنّما هى أن نعلم كيف نُريد لا أن نعلم كيف نعمل. فإذا أردنا عملنا ؛ وكلُّ مُريدٍ عاملٌ وعارفٌ بوسيلته إلى إنجاز مُراده.
 مضى زمنٌ والناسُ يتحدثون عن الإرادة والعمل كأنّهُما قُدرتان مفصولتان ، وعن العاطفة والفكر كأنّهُما شيئان لا يتلاقيان ، وعن الخيال وفهم الواقع كأنّهُما ملكتان نقيضتان ، إلى آخر ما يُفرقون ويُقابلون  بين ملكات الطبائع وخصائص الأذهان. وهذا خطأ فى تصوير الحقائق يتبعه لا محالة خطأ فى تصوير العلاج والإصلاح.
ليست الإرادة والعمل ولا غيرها من الملكات والطبائع خطين مُتلاحقين يبدأ أحدُهما عند نهاية الآخر ، أو جسمين مُتحيزيّن  لا يجتمعان فى مكانٍ واحد ، وإنّما هُما مظهران من قوة النفس يصدُران عن معيِنٍ لا يتجزأ ولا ينفصل بالحدود والمعالم. فإذا امتلأتْ النفسُ بالقُدرة على الإرادة فقد امتلأت بالقدرة على العمل فى وقتٍ واحد وفى صورة واحدة ؛ ولن يفشلَ الفاشلُ فى عمله - وقدّ تهيّأتْ للعمل أسبابه -إلّا لأنّه ناقصُ الإرادة.
 أرأيتَ إلى الناس وهم يطلبون السيادة ولا يبلُغها منهم إلّا قليل ؟ ما بالُ قومٍ منهم يبلغونها وأقوامٍ ينكلون عنها خاسئين ؟
إنّما يبلُغها من بلغَ لأنّه أرادها ولم يُرد غيرها . فهو سيّدٌ وإن تراخى الزمنُ دون الإقرار له بالسيادة ، وهو سيّدٌ لأنّه لن يكون عبداً وإن أخطأتْهُ الذرائع ُ إلى حين.
 أمّا الذى يبغى أن يسود ولا يأبى أنْ يكون عبداً فأين هو من إرادة السيادة !
وأمّا الذى يبغى أن يسود ولا يختلف عنده مقام السيّد الرفيع ومقام العبد الذليل  فأين هو من إرادة السيادة؟
 وأمّا الذى يبغى أن يسود ويحسب أنّ الناس يسودونه قبل أن يسود عليهم فأين هو من لإرادة السيادة؟
 قٌلْ إنّه يتمنى أن يسود ، أو قلْ إنّه يحلُم بأنْ يسود ، أو قلْ إنّه لا يكره أنْ يسود ، فأمّا أنّه يُريد فمعاذاَ الإرادة أنْ تجتمع ولا يتبعُها عملٌ ولا يتبعُ العملُ نجاح.
 لماذا لا نعمل؟ لأنّنا لا نُريد ! ولماذا لا نُريد ؟ لأنّ ززادنا من الحسّ والوعى والخيال قليلٌ.
ومع هذا نحن لا نزهى بشيئٍ كما نزهى بفرط الحسّ وفرط الوعى وفرط الخيال.. فهل رأيْتَ إلى بُعدَ ما بيْن الحقيقةِ والدعوى ، وبُعد ما بيْن وصف الداء ووصف العلاج؟!
 إملأ النفسَ بالحسّ والوعيّ والخيال تملأُها بالحركة والإرادة غير مُنفصلين. وانظر إلى الطفلِ الدارج لماذا لا يهْدأ ؟ ألأنّه قرأ الفصول والمباحث فى فضل الحركةِ والنشاط ؟ ألأنّ أحداً أمرَهُ أوْ أغراه ؟   كلّا ! ولكنّهُ يتحرك وينشط لأنّهُ شبعانٌ من الحسّ من إرادةِ العمل الذى يهواهُ. ولو سببٌ غيْر ذلك دعاه إلى الحركةِ والنشاط ما استجاب. إذا أحسسنا لم نصبر على الركود ، وإذا نفضنا الركود فماذا أما مُنا غيْر الحركة والعمل؟ وماذا أمامُنا  غير الظفر والنجاح؟
 لننسَ كُلّ النسيان أنّنا  ت- معاشر الشرقيّين -  قومٌ مُصابون بفرط الحسِّ والوعىّ والخيال. فإنّنا لأبرأ ُ الناسِ من هذا المُصاب إنْ كان مُصاباً. وإنّنا لأحوجُ الناس إلى هذا الشفاء، وهو شفاء.
 وآيةُ ذلك أنْ نسأل  كم عدد المُعبرييّن عن الحسّ والخيال فى الشرق كله؟ وكم عدد هؤلاء فى أُمةٍ واحدة من أُمم الدُنيا المُريدة العاملة؟
كم فى أُمةٍ واحدةٍ من أمم الدُنيا المُريدة العاملة السيّْدة الأيّْدة  من مُصوريّن ومثّالين؟ كم فيها من موسيقيّين ومّنشدين؟ وكم فيها من مُمثلين ومُخرجين وكُتاب روايات وشُعراء وأُدباء؟ وكم فيها من متاحف وتماثيلٍ؟ وكم من باعةِ أزهارٍ واساتذة تجميل؟ وكم فيها من مُغامرين مقاديم يبيعون الواقع بالخيال، ويستغنون عن المُمكن الميْسور بما يلوح للعاجزين كأنّهُ مُحال؟
كم من هؤلاء فى أُمةٍ واحدةٍ ؟ وكم منههم فى الشرق كُلّه هذا الزمان وأخشى أن أقول فى جميع الأزمان؟
إنْ لم تكن الحقيقة أنّ الشرقَ مسكين غاية المسكنة مُدقع غاية الإدقاع فى أزواد الحسّ والخيال ، فالأسطورة الكُبرى هى أنّه مُسرفٌ فى حسّه وخياله ، مُفرط فى شطحاته وآماله.
 فما بالُنا نحار كيف نعمل ، وأولى بنا أنْ نحار كيف نُحسّ ونتخيْل؟ وما بالُنا نُنشد أسباباً للحركة والعمل غيْر أنْ نملأ نفوسنا بالإحساس كأنّما هذا وحده غيْر كافٍ؟ وكأنّما نحتاجُ بعد الإحساس إلى مزيد؟
إنّ الإنسانَ ليثور من السخط والغضب حين ينظر إلى شُعرائنا العجزة المُعدمين وهم يتيهون من الغنى الموهوم ، ويتغطرسون بالثراء المعدوم. وأسمعهم يتغنون  بالحب مثلاً والحبُّ فيضٌ فى الشعورِ واتساع فى آفاق الوجدان ، واسمعهُم يتغنوْن به وهو  صنوفٌ لا تنحصر فى معنىً واحد ولا فى نمطٍ فريد : حبُّ الناشئين غيْر حب الكهول ، وحب التفاهم والتعاطف غيْر حب المُتع والشهوات ، وحب المنكوب الّلاجئ إلى  حرمِ العاطفة  غيُر حب السعيد الناعم بما فى يديْه، وحب المرأة المطواع اللعوب غيْر حب المرأة العصيّة الشموس، وحب الواثق غيْر حب المُرتاب، وحب الوسيمة القسيمة غير حب الرشيقة الظريفة، وحبك الأول غيْر حبك بعد تجربةٍ ومَراسٍ، وصنوفٍ غير ذلك تتعدد بعداد الرجال والنساء وعدد الأحيان والمُناسبات. إسمعهُم يتغنون بهذه العاطفة الشاملة الداوية العميقة الرحيبة التى لا عِدادَ لها بالألوان وإنْ عُدّت باللفظ  فى  كامة  واحدة  وقلْ لى ماذا تسمع غيْر نغمةٍ واحدة معروضة فى شتّى الأساليب؟ ماذا تسمع غيْر أن حبيبةً هاجرةٌ أبداً وحبيباً سيموت أبداً وفوق ذلك قطرات هُنا من دموعٍ وشهقاتٍ هُناك من أنينٍ؟
ودعْ هذا واسمعْ المُنشد أو المُنشدة لا يكادان يفرغان من نغمةٍ مبدوءةٍ حتّى يتبعها ضجيجٌ وزعيق ٌ وقرّعٌ وخبطُ وتصفيقٌ كله نشوذٌ واختلاط ومُنافاة أبعد المُنافاة لسماع الإلحان والأنغام. وقلْ لى : هل تُصدّق أنّ هؤلاء السامعين يستمعون إلى موسيقى ويصغون إلى فنٍ وينعمون بتعبيرٍ جميلٍ وتنسيقٍ لا يُطيقُ الإختلال؟
فأمّا الموسيقى والنشوز والخبط والزعيق فمُحالٌ أن يجتمع هواها فى أُذنٍ واحدة  فى لحظةٍ واحدة ؛ وأمّا الذى يجتمع  مع النشوز والخبط والزعيق فهو تخبط الجسد المحموم بحمّى البهيميّة ، لا تمييز فيه ولا ذوق ولا خيال.
علمَ الّله ما أصغيْتُ إلى جمعٍ من هؤلاء الناعقين الناهقين ولا توسمتُ ما يزهوْن به  من " حساسةٍ " وظرافةٍ إلّا تلمستُ فى يدى موضعَ السوط أُلهبُ به تلك  "الحساسة " وأُطيرُ به تلك " الظرافة " وأُثبتُ لهم بالسوط وحده - ولا إثبات بغيْره لأمثال هؤلاء - أنّهم بُلداء  بُلداء بُلداء ، وأنّهم يُغثّون النفوس من فرط كونهم بُلداء غارقين فى بلادة لا تُفيق.
لا يا أُساةَ الشرق الحزين والمُشفقين عليه !
داووه من نقص الإحساس لا من فرْط الإحساس ؛ وداووه من ضنانةِ الخيال  لا من سرَف الخيال.
وعلّموه أن يُحسّ تُعلّموه أن يُريد ؛ ومتى تعلّمَ أنْ يُريد فلا حاجة به وراء ذلك إلى تعليم.
ولقدّ يسألُ السائلُ  من جديد : ومن لنا أنْ نُثبت فيه الحسّ المأمول؟
جواب ذلك سهلٌ يسير فى التعبير ، ولا أزعمُ أنّه  سهلٌ فى الإنجاز والتحقيق.
جواب ذلك أنّ الحسّ لا يُخلق خلقاً، ولكنّهُ يُتعهد بالحثّ والإيقاظ إنّ أصابهُ جمودٌ ورانتْ عليه ثقلةُ الكسل والجثوم.
وليس أنجع فى الحثّ والإيقاظ من تصحيح الأجسام وتصحيح الأذواق : تصحيح الأجسام بالرياضة الصالحة  القويّة، وتصحيح الأذواق بالفنون الجميلة الرفيعة؛ ومن صحّ جسده وحسُنَ ذوقه فلن يفوته الشعورُ بما حوله ؛ ومن شعرَ بما حوله فماذا يبقى له إلّا أنْ ينشط ويعمل ، إلّا أنْ يُريد ويُنجز ما يُريد؟
                                       
                                                                                                        موضوعات مُتعلقة :  ملحمة ترجمة شيطان كاملة
Enhanced by Zemanta

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق