الاثنين، 1 أبريل 2013

هل يلعب الله النرد بالكون ؟

                                        
    كان أينشتاين يقول  طيلة حياته  أنّ الله "لا" يلعب  النرد بالكون، فياتُرى ماذا كان يقصد ولما قالها فى الأساس؟.                                                                           .

اختلاف فيزيائى من وجهة نظر فلسفيّة :
لقد قال أينشتاين ذلك لأنّه كان فى أشدّ الخلاف مع العديد من عظماء الفيزياء فى عصره، أمثال نيل بوهر وهايزينبرج وماكس بلانك الذين تبنوا ما يُعرف ب"تفسير كوبنهاجن" لما تمخضت عنه نظريّة الكوانتم الجديدة، آنذاك، من نتائج. إنّ اختلاف أينشتاين لم يكن قى المُقدمات التى بنى أصحاب نظريّة الكم نتائجهم عليها، بل فى النتائج ذاتها. فالمقدمات صحيحة وأينشتاين يُسلّم معهم بذلك ، غيْر أنّ النتائج التى استنبطوها منها هى التى رفضها أينشتاين وعارضها بضراوة. فهو لم يُقرّ النتيجة التى توصلوا إليها وهى أنّ شيئاً ما لا يوجد حقيقةً كوجود موضوعى فى الطبيعة ما لم يُلاحظه العقل البشرى الواعى ويُسجله، وأنّ عالم ما تحت الذرات غير محكومٍ بقوانين وأنّه يسلك بمحض الصدفة وأنّ حتميّة وجود قوانين مُعلّلة لحدوث الأشياء، كما هى عند نيوتن، قد انهارت، فليس هُناك من حتميّة لقوانين عالم ما تحت الذرة.

الحتميّة فى مُقابل العشوائيّة :
يعتقد مُعظمنا أنّ الأحداث لا تحدث فقط بل إنّها  "تُسبّب" فى حدوثها ، وخارج نطاق ميكانيكا الكم، يتخذ كل فرع من فروع المعرفة مثل الفيزياء والبيولوجيا والطب وغيرها هذا كمبدإٍ مُطلقٍ له. وقدّ اعتقد اينشتاين فى عموميّة هذا المبدأ، أقصد مبدأ الحتميّة، وأنّ الكون يسرى فى أحداثه خاضعاً له بحيث كل الأحداث تعلّلها أحداثٌ أُخرى ، فكلُ حدثٍ هو علّة لما بعده و معلولٌ لما قبله. ذلك الإعتقاد عند أينشتاين نما معه منذ الصغر ويراه هو أنّه من ثوابت المنطق.

ميكانيكا نيوتن الحتميّة :
من أبرز ما يُمثل هذه الحتميّة فى الطبيعة ميكانيكا نيوتن فى العالم الفيزيقى، حيثّ  إنّ قوانين نيوتن فى الحركة علّلت حركات االأجسام فى الطبيعة بداية من كرات البلياردو  و انتهاءاً بالأجرام السماويّة  ودوران القمر حول الأرض والكواكب حول الشمس. فلقدّ بيّن نيوتن أنّ  الموضع والسرعة الإتجاهيّة الكتليّة (Momentum)  للقمر مثلاً فى أىّ زمنٍ ما يُحدّد موضعه وسرعته فى أىّ وقتٍ لاحق إذا لم يتدخل فى حركته شيئٌ خارجى. فالقمر يسير فى حركة تحكمها قوانين قد كشفها نيوتن ومن ثمّ أمكنه التنبؤ بطبيعة حركته فى المُستقبل. فلو أمكن لنا أنّ نعلم موضع القمر وسرعته الكتليّة  واتجاهه، لاستطعنا باستخدام قوانين نيوتن أنّ "نُحدّد وأنّ نتنبأ" بحركات وأوضاع القمر فى المستقبل. إنّ هذه القوانين "الحتميّة" للقمر مع قوانين الأرض والشمس  هى التى تمكنّا من أنّ نصنع التقاويم الشمسيّة ونتنبأ بالمدّ والجزر لسنين وعقود وربما لقرونٍ مديدة. ذلك هو انتظام الطبيعة الذى لولاه ما أمكننا أنّ نُشيّد ما شيّدناه من القوانين والنظريّات العلميّة، ذلك لأنّ العلم كله قائم على ذلك الإنتظام فى أحداث الطبيعة وهو عكس العشوائيّة. إنّ ميكانيكا نيوتن حقّقت ومازالت تُحقّق نجاحاً كبيراً فى وصف الأليّات والقوانين التى تحكم حركات أجرام الكون الكُبرى كالشمس والأرض والقمر وغيرهاأ إلّا أنّها لا تنطبق على عوالم ما تحت الذرة ، فهى لا تُمكنّا من وصف السلوك التى تتخذه هذه الجرميّات المُتناهية الصغر. لذا، ففى بدايات القرن العشرين تمّ اكتشاف نظريّة الكم أو الكوانتم والتى تعنى أنّ الطاقة، الضوء مثلاً، ينتقل فى كمّات مُتقطعة وليس فى سيلٍ متواصل كما كان يُزعم من قبل ؛ ذلك لأنّ الضوء ذو طبيعة ماديّة موجيّة  وليس موجيّة فقط.

عجز ميكانيكا نيوتن الحتميّة :
فشلت ميكانيكا نيوتن على المستوى الذرى مما أدّى بماكس بلانك أنّ يكتشف ميكانيكا " الكوانتم" بعدما اكتشف أنّ الطاقة تنتقل فى كمّات مُتلاحقة وليست سيل متواصل موجىّ غير مادى ، بلّ هى ، أىّ الطاقة، ماديّة موجيّة فى آنٍ واحد. حاول الفيزيائيّون ، بعد ذلك، أنّ يُزامنوا بين تحديد موضع الإلكترون وقياس سرعته   فلم يتمكنوا، حيث أنّه كلما زادت الدقة فى تحديد أحدهما، سرعة الإلكترون أو موضعه فى المدار، قلّت بنفس النسبة فى الموضع الآخر، والعكس بالعكس. فلكى يُحدّد العُلماء موضع الإلكترون لا بدّ أنّ يروا شُعاع الطاقة الذى يحتويه، غيْر أنّ تلك الطاقة نفسها التى يستخدمونها للرؤية تزيد من سُرعة الإلكترون: فيُمكننا أن نتجاهل سرعته ونقيس الموضع بدقة مُتناهية  ولكن من المٌستحيل أن نقيس الإثنين بنفس الدقة . فعلى العالم أن يقنع"بحتميّة" أحدهما و "احتماليّة " الآخر.  من هُنا فليس هُناك حتميّة فى القوانين وإّنما هى العشوائيّة والصدفة.
هايزنبرج ومبدأ الّلا حتميّة :
العالم هايزنبرج هو أول من أعطى هذا الوصف لسلوك العالم الذرىّ وذلك ضمن أوصاف أُخرى مثل، "مبدأ الشك ومبدأ عدم التيقن"، وقدّ توصلّ هو ومجموعة من فيزيائىّ ميكانيكا الكم- المُنتمين لمدرسة كوبنهاجن الفيزيائيّة- الى أنّ سلوك عالم ما تحت الذرة  غير حتمىّ بل هو عشوائى. فطبقاً لهم ، أحداث اجزاء ما تحت الذرة تحدث  بمحض الصدفة وكيفما اتفق أىّ لا  تكمن ورائها علةٌ ما.  وهذا ما أبلغه هايزنبرج الى أينشتاين فى خطابٍ له عام 1927 يقول فيه : "  إنّنى أعتقد أن العشوائيّة ، وهى عدم صلاحيّة مبدأ العليّة  الذى طالما اعتقدنا فيه، أمرٌ  مُضطرين إليه وليس مُخيّرين فيه. ونفس الفحوى قد أرسل بها نيل بوهر إلى أينشتاين قائلاً : لقد فُرض علينا أن ننبذ مبدأ العليّة المثالى فى الفيزياء الذريّة....

نقد أينشتاين للعشوائيّة المزعومة فى عالم ميكانيكا الكوانتم :
لقد هاجم أينشتاين بضراوة ما توصل اليه فيزيائو الكوانتم من نتيجة مبدأ العشوائيّة فى الطبيعة، وقال أنّ هذا المبدأ جاء نتيجة استنتاج وحكم خاطئين الذى أدّى اليهما الخلط فى مفهوم " الحتميّةDeterminism "، إذ أنّه يعنى شييئين لا شيئاً واحداً؛  فهناك " الحتميّة العليّةCausal determinism " وهناك "الحتميّة التنيؤية Predictive determinism "
1-      الحتميّة العليّة : وهى تعنى أنّ كل حدثٍ يُحدد ويُعلّل سلفاً بأحداثٍ تسبقه. فتلك الحتميّة تخص طبيعة الوجود ذاته Ontological، فكلٌ منّا يجزم بأنّ للوجود عللاً وتلك الحتميّة يعتقدها كلُ انسان ، يتساوى فى ذلك راعى الغنم والفيلسوف.
2-      الحتميّة التنبؤيّة : وهى تعنى أنّه اذا كانت الحتميّة العليّة سليمة كمبدأ  وأنّنا نعلم علل حدثٍ ما والقوانين التى تحكم حدوث تلك النوعيّة من الأحداث، فإنّنا ، حينئذٍ، يُمكننا أن "نتنبأ" بالأحداث المُستقبليّة. فالذى يعتقد فى هذا النوع من الحتميّة  فإنّه يعتقد فى حتميّة المعرفة. فتلك الحتمية تخص معرفة الوجود.Epistemological
وقد قبل أينشتاين ما قاله علماء مدرسة كوبنهاجن بأنّ تلك الحتميّة التنبؤيّة غير ممكنة فى التعاطى مع أحداث جُسيمات ما تحت الذرة، وقبل أيضاً أنّنا لا يمكّنا القياس الدقيق لتلك الأحداث ؛ إلّا أنّه لم يقبل بأنّ ذلك يعنى إنهيار الحتميّة العليّة.  فانهيار حتميّة التنبؤ لدينا نحن لا تعنى على الإطلاق أن العشوائيّة والصدفة هى سلوك جُسيمات ما تحت الذرة.

قضيّة منطق :
القضيّة هنا قضيّة منطق ، فكما بيّنا فى السابق ، حتميّة التنبؤ تفترض بالضرورة حتميّة العليّة، فلكى أقوم بتنبؤ حادث ما من آخر  فإنّنى أفترض مُسبقاً انتظام مبدأ العلة والمعلول ولا أفترض الصدفة وإلا ما أمكننى أن أتنبأ. وعلى الجانب الآخر، فإنّ الحتميّة العليّة لا تستلزم  حتميّة  التنبؤ لدينا . لذا، فلا يصحّ أن نستنبط  انهيار مبدأ  الحتميّة العلّيّة من انهيار وفشل حتميّة الجانب المعرفى  عندنا. وفى ذلك ، فأينشتاين ترجح كفته فى مقابل كل  فيزيائى الكوانتم.

مفهوم الصدفة فى ألعاب الّحظ :
انّ ما يريد أينشتاين أنّ يقوله يمكن أنّ مثلّه بلعبة النرد . فى تلك اللعبة نحن جاهلون بوضع وسرعة واتجاه  حجر النرد  عند القائها  ، فلذلك لا يمكننا أنّ نتنبأ بالضبط كيف وأين سيستقرّ حجر النرد ، غير أنّنا على أقصى تقدير يمكننا أن نتنبأ " احتماليّة" استقراره فى مكانٍ ما.  وفى حالة الروليت، تتعقد الأمور ويصعُب التنبؤ حيث أنّنا لا نجهل حالة الكرة عند القائها فقط بل نجهل حالة عجلة الروليت نفسها، مكانها وسرعتها .فليس منا من يُنكر أنّ هناك قوانين تحكم سقوط الكرة اثناء دوران عجلة الروليت ، ومن الطريف أنّ مجموعة من المُقامرين فى كازينو فى عام 2004 قد استعانو باجهزة اليكترونيّة دقيقة لتقوم بعمل حسابات فوريّة للتنبؤ بسلوك عجلة الروليت والكرة . ونتيجة لذلك فقد تمكنوا من  تحسين فرص الفوز لديهم عن طريق حساب عدد الإحتمالات الممكنة لحجر النرد. ومن وجهة نظر أينشتاين، فانّ  عدم تيقن المُقامرين فى التنبؤ بمكان النرد ليس نتيجة لانعدام القوانين العليّة التى تعلل استقرار النرد فى مكانٍ ما بل نتيجة افتقارهم الى معرفة تلك العلل ذاتها.  وبالقياس،   فمبدأ اللاحتميّة لهيزنبرج نتاج افتقارنا لمعرفة الآليّات التى تسلك بها تلك الجزيئات  وليس نتاج لعدم وجود تلك الآليّات ذاتها. فأدوات القياس لدينا قاصرة لا تُمكننا من دقة القياس التى توصلّنا الى القوانين الحاكمة للحركة. ويقول  أينشتاين : إنّنى مازلت أعتقد فى إمكانيّة وجود نموذجاً للحقيقة أو نظريّة بحيث تُمثّل حقائق الأشياء فى ذاتها وليس فقط امكانيّة معرفتنا بالأشياء. و أعتقد أيضاً أنّ الصفة الإحصائيّة التى تتعامل مع احتماليّات مُتعددة لنظريّة الكم  راجعة الى قصور فى تلك النظريّة  فى وصف الأنظمة الماديّة.

مؤيّدو أينشتاين فى موقفه :
لم يكن  أينشتاين بمفرده فى موقفه من نتائج ميكانيكا الكوانتم، بل شاركه العديد من الفيزيائيّون الرأى فى أن نظريّة الكوانتم ستنتهى بالإقلاع عن الصفة الإحصائيّة الإحتماليّة  العشوائيّة الذي يتعامل بها الفيزيائيّون  مع أجزاء ما تحت الذرة. ولقدّ أيّده فى ذلك عظماء عصره من الفيزيائيّن أمثال: ماكس بلانك،  وشرودنجر، ولويس دى بروجلى، وديفيد بوهيم  فيما بعد. ولقدّ عبّر لويس دى بروجلى عما يعتقدونه الصواب قائلاً : إنّنى أتوقع أن يأتى زمنٌ نقتدر فيه على تفسير قوانين الإحتماليّة و فيزياء الكم  على أنّها نتائج إحصائيّة  لتطور قيم مُطلقة الحتميّة لمُتغيرلت مُحتجبة عنّا  فى الوقت الراهن. أعتقد أنّنا  نلجأ  إلى فكرة الصدفة والعشوائيّة  كلما  تقدمت بنا المعرفة  وفى كل طوْرٍ من أطوار العلم التى تُلقى بنا على أعتاب طورٍ جديدٍ أعمق وأدقّ معرفة من سابقه بحيث أننا ، لقصور معرفتنا وقلة الأداة لدينا، أنّه يُضلللنا وأنّ الصدفة هى تفسيره الوحيد. فدى بروجلى يعتقد أنّ مفاهيم العشوائيّة والصدفة  مفاهيم معرفيّةEpistemological  محضة تتعلق فقط بمعرفتنا نحن بنى البشر، أو بلأحرى، بنقص معرفتنا، فلا يصحّ أن تُتخذ ، قلة معرفتنا، دليلاً على الصفة الوجوديّة لأحداث الطبيعة. فإذا كنّا لابدّ أن نلتمس العلّة فى سلوك جُسيمات ما تحت الذرة، فلنلتمسه فى جهلنا به وليس فى العشوائيّة، حيث أنّها لا تصلح تفسيراً لأحداث الطبيعة. وفى المُقابل، يُصرّ علماء الكوانتم على أنّ تقديرات الصدفة التى تعكسها رياضة الإحتمالات لميكانيكا الكوانتم ما هى إلّا نتيجة موضوعيّة لفشل مبدأ الحتميّة العليّة فى الطبيعة ذاتها، وليس فى قصور معرفتنا.  قهم يروْن أنّ " مقولة الصدفة" مبدأ وجودى يختص بطبيعة الوجود ذاته، وليس فقط مبدأ معرفى يختص بمدى المعرفة عندنا. فهم يزعمون أنّ السلوك التى تسلكه جُسيمات ما تحت الذرة يبدو كما لوكان هُناك إله يلعب النرد بالكون ، وذلك هو عين ما كان يقصده أينشتاين حينما قال " الله لا يلعب النرد بالكون".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق